“إعلان جدَّة” بين رؤية يمنية متشائمة وأخرى متفائلة

مقدمة: 

اختُتِمت، في مدينة جدَّة بالمملكة العربية السُّعودية، أعمال القمَّة العربية الثَّانية والثَّلاثين، بمشاركة واسعة مِن القادة العرب، وبحضور الرَّئيس الأوكراني، “زيلينسكي”. وكان مِن أبرز مجريات القمَّة حضور الرَّئيس السُّوري، بشَّار الأسد، لها، بعد انقطاع دام لأكثر مِن (12) عامًا. وفي حين نصَّ البيان الختامي للقمَّة، والذي أطلق عليه “إعلان جدَّة”، على “التَّأكيد على وقف التَّدخُّلات الخارجية في الشُّئون الدَّاخلية للدُّول العربية… ورفض دعم تشكيل الجماعات والمليشيَّات المسلَّحة الخارجة عن نطاق مؤسَّسات الدَّولة”[1]، إلَّا أنَّ الواقع يقول عكس البعد النَّظري، فهناك دعم مباشر مِن بعض الأنظمة العربية للجماعات المسلَّحة الخارجة عن مؤسَّسات الدَّولة، كما هو حاصل في اليمن.

في هذه الورقة نستعرض بيان قمَّة جدَّة بشأن اليمن.

بين مشروع اليمن وبيان الجامعة:

تقدَّمت الجمهورية اليمنية بمشروع قرار احتوى على (29) بندًا. وقد ابتدأ مشروع القرار بالالتزام بوحدة وسيادة وسلامة وأمن الأراضي اليمنية، ورفض أيِّ تدخُّل في شئونه الدَّاخلية، وانتهى بالإشادة بزيارة الوفد السُّعودي إلى صنعاء مؤخَّرًا[2]. وقد اعتمدت القمَّة القرار، غير أنَّ اعتماد مشروع القرار المقدَّم مِن الجمهورية اليمنية لا يعني اتِّفاق البيان الختامي للقمَّة معه؛ فلكلِّ دولة أن تتقدَّم بقرار، ويتمُّ اعتماده عادة، ولا يختلف حوله في كثير مِن الأحيان.

وهنا يُلاحظ تجاهل البيان الختامي للقمَّة التَّأكيد على مصطلح “الوحدة” فيما يتعلَّق بالجمهورية اليمنية، واكتفى بالتَّأكيد على “دعم كلِّ ما يضمن أمن واستقرار الجمهورية اليمنية، ويحقِّق تطلُّعات الشَّعب اليمني”[3].

ومِن الواضح أنَّ البيان الختامي للقمَّة هو الأهمُّ بالنِّسبة لليمن، على الأقلِّ لما للدَّولة المضيفة مِن تأثير مباشر على مجرى الأحداث في اليمن، إذ يُعبِّر البيان عن الموقف السِّياسي للدَّولة المضيفة والزُّعماء العرب بشكل عام تجاه الأزمة اليمنية.

وفيما كانت القمم العربية السَّابقة تؤكِّد، في كلِّ بياناتها الختامية، عقب سقوط صنعاء بيد جماعة الحوثي المسلَّحة في 2014م، على الحفاظ على وحدة اليمن وسلامته الإقليمية، واستقلاله، إلَّا أنَّ “إعلان جدَّة” تخلَّى تمامًا عن مصطلح الوحدة اليمنية. ويمكن فهم هذا التَّحوُّل في بيان القمَّة في عدَّة سياقات محتملة:

– أنَّ الدَّولة المضيفة (السُّعودية) ترغب في عدم إثارة غضب “المجلس الانتقالي” الجنوبي، المدعوم إماراتيًّا، في سبيل استمالته إلى صفِّها، في الوقت الذي ترغب أن تكون هي المتحكِّم بالمشهد اليمني والأطراف الفاعلة فيه.

– أنَّ السُّعودية تريد إرسال رسالة ضمنية لجماعة الحوثي بأنَّها قد تدعم خيار الانفصال في حال لم تجنح الجماعة للمساعي السُّعودية لإنهاء الحرب والمضي نحو تسوية سياسية.

– أنَّ السُّعودية تسعى للضَّغط على الأطراف الموالية للشَّرعية مِن خلال التَّلويح بتهديد الوحدة اليمنية للانخراط أكثر في تحقيق أجنداتها والتَّسليم لقراراتها المتعلِّقة باليمن، وعدم الخروج عن خططها وسياساتها.

– أنَّ السُّعودية تتَّجه بالفعل إلى فصل الجنوب وتعزيز جانب “المجلس الانتقالي” الجنوبي باعتبار أنَّ الوحدة اليمنية باتت جزءًا مِن أزمة اليمن، وهي فرصة لا تعوَّض لصاحب القرار السُّعودي في تقسيم اليمن وإعادته إلى المربَّع الأوَّل وحالة الضَّعف.

وأيًّا كانت نوايا السُّعودية فإنَّ التَّخلِّي عن وحدة اليمن في بيان القمَّة يحمل دلالات سلبية. وأيًّا كانت التَّفسيرات لهذا البيان فإنَّ المؤشِّرات على الأرض توحي بأنَّ هناك صراعات إقليمية يتمُّ تصفيتها على حساب اليمنيين وسلامة أراضيهم ووحدة دولتهم.

وصحيح أنَّ البيان الختامي للقمَّة أكَّد على الجمهورية اليمنية، والجمهورية اليمنية لها معنى قانوني واحد وهو اليمن السِّياسي الواحد؛ غير أنَّ مِثل هذا التَّوجُّه في بيانات الجامعة العربية، والذي يتهدَّد الوحدة اليمنية، لا يخدم الأمن الإقليمي ولا السِّلم الدُّولي، بل يهدِّد كيان الدَّولة في اليمن ويسمح للجماعات المسلَّحة بالنُّمو والانتشار، والتَّمسُّك بخروجها عن سيطرة الدُّولة، وتعنُّتها في مطالبها، بما في ذلك تيَّاري “المجلس الانتقالي” الانفصالي وجماعة الحوثي الطَّائفية.

دلالات خطاب “العليمي” في القمَّة العربية:

ركَّزت كلمة رئيس مجلس القيادة الرِّئاسي، د. رشاد العليمي، في القمَّة العربية على الوضع الاقتصادي، وطالب الأعضاء بالتَّدخُّل لدعم الحكومة اليمنية مِن أجل تحسين الخدمات الأساسية، وبالتَّدخُّل الإنساني لإنقاذ حياة الملايين، “وكأنَّ الأزمة في اليمن إنسانية، وليست سياسية بالمقام الأوَّل. كما أكَّد على تمسُّك مجلس القيادة الرِّئاسي بالمرجعيَّات الثَّلاث لاستئناف العملية السِّياسية.[4]

ولم يقدِّم رئيس مجلس القيادة أيَّ رؤية سياسية واضحة لكيفية التَّعامل مع الوضع في جنوب وشرق البلاد، واكتفى بالمناشدة والتَّأكيد على المرجعيات الثَّلاث فقط. وفي حين أكَّد على ضرورة حماية وحدة الأراضي السُّورية، لم يستطع “العليمي” طرح قضية التَّمسُّك بوحدة اليمن في خطابه، أمام القمَّة العربية، بوضوح تام. وجاء خطابه متناسقًا مع أجندات “التَّحالف العربي”، بقيادة السُّعودية، في الوقت الرَّاهن. في الوقت الذي باتت فيه الوحدة اليمنية مهدَّدة مع اعتماد “المجلس الانتقالي” الجنوبي مبدأ التَّصعيد، قبيل انعقاد القمَّة العربية، سياسيًّا تجاه مسألة الانفصال بإعلانه “الميثاق الوطني الجنوبي”، وميدانيًّا بتمدُّده في محافظة حضرموت شرقًا، دون أيِّ اعتراض مِن قبل “التَّحالف العربي”، أو مجلس القيادة الرِّئاسي.

خطاب “العليمي” هذا مكرَّر، ولا يحمل أيَّ جديد، وهو مؤشِّر واضح على أنَّ مجلس القيادة الرِّئاسي بلا رؤية وطنية واضحة، نتيجة لانقسام أعضائه وتعدُّد مشاريعهم. فجزء مِن المجلس لا يعمل بمبدأ التَّوافق بل انتمى لمشروع وخيار الانفصال، وقد أصبح هذا الفريق، عقب انتماء عضوي المجلس، فرج البحسني، وأبو زرعة المحرمي، إلى قيادة “المجلس الانتقالي” الانفصالي، يمثِّل كتلة كبيرة في المجلس الرِّئاسي. ويتمتَّع فريق الانفصال في المجلس الرِّئاسي بدعم إماراتي سياسي وعسكري ومالي كامل. وهو التَّيَّار المتحكِّم بالمشهد الأمني والعسكري في عدن وبعض المحافظات الجنوبية عدن. وجزء آخر مِن المجلس يدور في فلك السِّياسة السُّعودية، لذا فهو محتفظ بصمته إزاء ما يجري على أرض الواقع في المحافظات الجنوبية والشَّرقية، وما يجري مِن مفاوضات سعودية مع جماعة الحوثي بعيدًا عن التَّنسيق مع مجلس القيادة الرِّئاسي وصنَّاع القرار اليمني.

وبالمجمل، لم يلبِّ خطاب “العليمي”، في نظر البعض، طموحات الشَّعب اليمني، بشأن الخطوات المستقبلية تجاه جماعة الحوثي في حال فشل التَّوصُّل إلى حلٍّ سياسي، وتجاه “المجلس الانتقالي” الجنوبي في حال اتِّجه إلى فرض الانفصال كأمر واقع، مِن خلال تمدُّده عسكريًّا وأمنيًّا وسياسيًّا في المناطق التي يُفترض أن تكون خاضعة للحكومة الشَّرعية، برئاسة مجلس القيادة الرِّئاسي.

وفي حين يرى بعض اليمنيين مجلس القيادة الرِّئاسي باعتباره أداة في يد القوى الإقليمية المنخرطة في الصِّراع، تدعمه وتديره وتوجِّهه، ليكون بذلك ممثِّلًا لليمن أمام المجتمع الدُّولي، العربي والعالمي، في هذه الفترة الحرجة مِن واقع اليمن، يفقد المجلس أوراق شرعيَّته الدُّستورية بتخلِّيه عن مهامه وواجباته ومسئوليَّاته الدُّستورية، بانخراط أعضائه أو تواطئهم مع توجُّه الانفصال القائم، معفيًا في المقابل دول “التَّحالف العربي” مِن أيِّ تبعات قانونية وأخلاقية مستقبلية تجاه ما يجري في اليمن.

هذا الطَّرح يقابله طرح مناقض، لا يرى في خطاب “العليمي”، أمام القمَّة العربية، أو في بيان قمَّة الجامعة العربية، أيَّ مساس بقضية الوحدة، فقد تحدَّث “العليمي”، في خطابه للشَّعب اليمني، بمناسبة الذِّكرى الثَّالثة والثَّلاثين للوحدة اليمنية التي أُّعلِن عنها في 22 مايو 1990م، حول قضية الجنوب، وأكَّد في مطلع كلمته على تدهور الأوضاع اليمنية حدَّ بلوغها ما وصفه بـ”الاستحقاقات العادلة للشُّركاء في جنوب الوطن”، واصفًا حرب 1994م بأنَّها “حرب أهلية، اعترفت بأثارها السَّلبية، القوى السِّياسية الفاعلة في البلاد”، في مؤتمر الحوار الوطني الشَّامل؛ لكنَّه في المقابل أشار إلى الجنوبيِّين باعتبارهم “شركاء الهدف والقرار في جنوب الوطن وشماله، كفريق واحد، وأمَّة واحدة، مِن أجل استعادة الدَّولة، والانتقال إلى فضاء أكثر تشاركًا، يحدِّد فيه اليمنيون مستقبلهم على أساس التَّعايش، كما كانوا وفعلوا ذلك”، مؤكِّدًا على معاني الوحدة في عبارات عدَّة، مِن ذلك “على قلب رجل واحد، وآمال وأهداف مشتركة، وفي كلِّ لحظة تاريخية اجتمع الشُّركاء مِن الشَّمال والجنوب لإحداث التَّحوُّل، ويمكننا فعل ذلك الآن، لأنَّه بدون الاتِّحاد.. سيكون علينا جميعًا انتظار مصير بلدنا، الذي تحدِّده التَّدخُّلات الأجنبية التَّوسُّعية للنِّظام الإيراني”، وكذلك توجيهه -في خطابه- كلَّ آيات الإجلال والإكبار والتَّقدير لأبطال القوَّات المسلَّحة والأمن والمقاومة الشَّعبية، على مواقفهم وتضحياتهم الغالية، “دفاعًا عن الشَّرعية الدُّستورية، والنِّظام الجمهوري، والوحدة الوطنية”.[5]

كما أنَّ مشروع قرار اليمن، المقدَّم مِن الحكومة اليمنية، للقمَّة العربية، تضمَّن في المادَّة الأولى مِنه: “الالتزام بوحدة اليمن وسيادته، وأمنه واستقراره، وسلامة أراضيه، ورفض أيِّ تدخُّل في شئونه الدَّاخلية”؛ بغض النَّظر عن تضمين بيان الجامعة العربية الختامي على ذات الألفاظ أم لا. فقد أكَّد البند الرَّابع مِن البيان على الوحدة بشكل ضمني، فقد جاء فيه: “نجدد التَّاكيد على دعم كلَّ ما يضمن أمن واستقرار الجمهورية اليمنية، ويحقِّق تطلُّعات الشَّعب اليمني الشَّقيق، ودعم الجهود الأممية والإقليمية الرَّامية إلى التَّوصُّل إلى حلٍّ سياسي شامل للأزمة اليمنية استنادًا إلى المرجعيَّات الثَّلاث المتمثِّلة في المبادرة الخليجية وآلياتها التَّنفيذية، ومخرجات الحوار الوطني اليمني، وقرار مجلس الأمن رقم (2216)”[6].

وستبقى الأيَّام القادمة كاشفة لما ستئول إليه سياسة مجلس القيادة الرِّئاسي، ومِن خلفه “التَّحالف العربي”، بقيادة السُّعودية، بشأن القضية الجنوبية.

تبعات “إعلان جدَّة” على مجرى الصِّراع في اليمن:

تخشى بعض القوى اليمنية مِن تكرار السِّيناريو السُّوري في اليمن، حيث عادت السُّعودية للاعتراف بالرَّئيس السُّوري، بشَّار الأسد، في ظلِّ عجزها عن إزاحته عن المشهد خلال الفترة الماضية، محتضنة إيَّاه في القمَّة العربية ممثِّلًا وحيدًا وشرعيًّا للشَّعب السُّوري، رغم تدميره لسوريا وقتله وتشريده لملايين السُّوريين، ما قد ينسحب على الحالة اليمنية شمالًا أو جنوبًا، ويجعل التَّكهُّنات بشأن الموقف السُّعودي تجاه الصِّراع في اليمن مفتوحًا على كلِّ الاحتمالات، بما في ذلك التَّعامل مع الأمر الواقع في المستقبل، والاعتراف بالانفصاليين والحوثيين؛ وهذا سيمثِّل تحدِّيًا كبيرًا أمام القوى الوطنية.

وقد مثَّل التَّطوُّر الحاصل في بيان القمَّة العربية الختامي مؤشِّرًا سلبيًّا، فعلى المستوى المحلِّي سوف تستخدم جماعة الحوثي هذه الثَّغرة لإظهار نفسها على أنَّها المدافع عن وحدة اليمن، في حين سيرى “المجلس الانتقالي” الجنوبي في الأمر ضوءًا أخضر لإتمام مساعيه في فرض الانفصال كحالة أمر واقع، خصوصًا وأنَّه يحاول التَّخلُّص مِن المرجعيات القانونية التي تؤكِّد على وحدة اليمن.

وثمة قضية أخرى، بيان القمة لم يوضح بشكل مباشر ضرورة وقف دعم الجماعات الانفصالية المنادية بالانفصال، وتغاضى عن دعم الإمارات للمجموعات الانفصالية جنوب وشرق البلاد. وفي هذا الصدد، يعزز

وسوف يظلُّ استمرار تدفُّق السِّلاح والدَّعم السِّياسي والعسكري للأطراف اليمنية ذات النَّزعات الانقلابية والانفصالية في الدَّاخل هو المحكُّ لدول “التَّحالف” مِن قضية الحفاظ على الوحدة، وأمن وسلامة واستقرار اليمن؛ لأنَّ مِن شأن الاستمرار في ذلك أن يعزِّز حالة الانقسام الدَّاخلي ويقود لمزيد مِن الفوضى والتَّفكُّك وتحلُّل الدَّولة اليمنية الواحدة.

اضغط لتحميل التقرير

[1]  القمة العربية الـ32 تختتم أعمالها بالموافقة على “إعلان جدة”، الجزيرة، في: 19/5/2023م، متوفر على الرابط التالي:

https://cutt.us/nHjUG

[2]  قرارات مجلس جامعـة الدول العربيـة على مستوى القمة، الدورة العادية (32)، الأمانة العامة، جامعة الدول العربية، في: 19/5/2023م: ص52- 61.

[3]  “إعلان جدة”: قادة الدول العربية يؤكدون أهمية تعزيز العمل العربي المشترك المبني على الأسس والقيم والمصالح المشتركة والمصير الواحد، وكالة الأنباء السعودية (واس)، في: 19/5/2023م، متوفر على الرابط التالي:

https://www.spa.gov.sa/68a3f8bca6a

[4]  العليمي: نثق في أن قمة جدة ستمثل نقلة إضافية لمسار العمل العربي المشترك، صحيفة سبق الإلكترونية، في: 19/5/2023م، متوفر على الرابط التالي:

https://sabq.org/saudia/60cacvh8au

[5]  ي خطاب بذكرى الـ 22 من مايو.. الرئيس العليمي: بدون الاتحاد سيكون علينا جميعا انتظار مصير بلدنا الذي تحدده التدخلات التوسعية للنظام الإيراني، المصدر أونلاين، في: 22/5/2023م، متوفر على الرابط التالي:

https://almasdaronline.com/articles/252153

[6]  “إعلان جدة”: قادة الدول العربية يؤكدون…، وكالة الأنباء السعودية (واس)، في: 19/5/2023م، مرجع سابق

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى