مشاورات عمّان خطوة ممهدة للسلام أم مراوحة في ذات المكان

Getting your Trinity Audio player ready...

 

 

خاض اليمنيون عدَّة مشاورات وحوارات خلال العقد الماضي، وتوصَّلوا إلى اتِّفاقيات سياسية، ولكنَّ كلَّ تلك المشاورات والحوارات لم تؤدِ إلى تحقيق أي تقدُّم واقعي في العمليَّة السياسية، بل كان بعضها عبارة عن مقدِّمة للدُّخول في الصراعات العسكرية مِن جديد؛ ورغم ذلك، ما تزال فرص إنهاء الحرب وتحقيق السلام، مِن خلال الولوج في تسوية سياسية شاملة، مطروحًا على الطاولة. وفي هذا السياق، يجري المبعوث الدولي إلى اليمن، هانس غروندبرغ، مشاورات مكثَّفة في العاصمة الأردنيَّة عمَّان مع الأحزاب السياسية اليمنية وقوى المجتمع المدني للاستماع إلى وجهة نظرها لحلِّ الصِّراع الدائر.

وقد التقى المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن مع “قادة من أحزاب المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح والحزب الاشتراكي والتنظيم الناصري، لبحث عملية السلام… والأولويات العاجلة وطويلة الأجل للمسارات السياسية والأمنية والاقتصادية”.  

ويواصل المبعوث مشاوراته مع حزب “المؤتمر الشعبي العام”، والقوى اليمنيَّة الأخرى، بما في ذلك القوى غير الحزبيَّة، ومِنها: ممثِّلين عن “المجلس الانتقالي”، و”مؤتمر حضرموت الجامع” و”خبراء أمنيِّين، وشخصيَّات مدنيَّة تمثِّل المجتمع المدني، بحسب ما نشره مكتب المبعوث الدولي. وهذه الخطوة مهمَّة للاستماع إلى وجهة نظر القوى السياسيَّة، وكذلك الفواعل الأخرى غير الحكوميَّة، إلَّا أنَّ مكتب المبعوث لم يفصح ما إذا كان سوف يلتقي بممثِّلي جماعة الحوثي أم لا. وفي حال لم تقبل الجماعة بالمشاركة في المشاورات الجارية، فهذا يعتبر مؤشِّر على أنَّ المشاورات سوف تقتصر فقط على المبعوث والقوى السياسية وأطراف يمنيَّة متعدِّدة، باستثناء جماعة الحوثي، ممَّا يجعل مهمَّته غير سهلة للخروج برؤية واضحة، ومِن ثمَّ بناء تصوُّر لحلِّ الأزمة اليمنية. ويتَّضح أنَّ محاور المشاورات ركَّزت حول الأولويات العاجلة وطويلة الأمد للمسارات السياسية والأمنية والاقتصادية، بحسب ما ذكره مكتب المبعوث.

ويعتبر الحوار الحلُّ الأنجع للوصول إلى تفاهمات لإنهاء الصراع، وما يحصل بين كلٍّ مِن روسيا وأوكرانيا مِن حوار على صُعد متعدِّدة يؤكِّد بأنَّ الدبلوماسية والحوار أمر ضروري حتَّى في ظلِّ استمرار الحرب.  وفي اليمن لا يزال الحوار خيارًا إيجابيًّا ومهمًّا للبحث عن الأرضية المشتركة بين الفرقاء، سواء بين الأطراف المنضوية تحت راية السلطة الشرعية، أو بين الحكومة وجماعة الحوثي -التي ما تزال تسيطر على مؤسَّسات الدولة في العاصمة صنعاء وبعض المحافظات الشمالية بقوَّة السلاح. ولكنَّ استمرار النِّقاشات مع طرف واحد دون وضوح الرؤية، ومِن ثمَّ مناقشتها، يحيلها إلى مجرَّد لقاءات بروتوكوليَّة وشكليَّة، مثل تلك المشاورات والحوارات التي جرت في المراحل السابقة.

ومع هذا، فإنَّ محاولة المبعوث الدولي لتقييم المرحلة الماضية والاستماع للأطراف اليمنية، لبلورة رؤية واضحة وطرحها على الحكومة اليمنية وجماعة الحوثي، تُعدُّ مِن وجهة نظر الكثيرين خطوة إيجابيَّة. هذه الورقة تتناول المشاورات الحالية في العاصمة الأردنيَّة (عمَّان)، مِن خلال التطرُّق إلى سياقها العام، والصعوبات التي تعترضها، والخروج برؤية وتوصيات للمبعوث، وكذلك القوى اليمنية المنخرطة فيها.

السياق العام للمشاورات:

تتمَّ المشاورات الحالية بالعاصمة الأردنيَّة عمَّان في سياق يتَّسم بالتالي:

– تمسُّك جماعة الحوثي بالخيار العسكري، واستمرارها في حشد القبائل باتِّجاه مدينة مأرب، وخوض معارك مع قوات الحكومة اليمنية في كثير مِن الجبهات. وعلى الرَّغم مِن أنَّ قرار مجلس الأمن الأخير وصفها بأنَّها جماعة “إرهابيَّة”، وأدان ضرباتها العابرة للحدود، إلَّا أنَّه لم يصنفها “جماعة إرهابيَّة”، ممَّا جعلها تستمر في ضرباتها العابرة للحدود بما في ذلك استهداف المناطق السعودية. وفي نفس الوقت يتَّضح أنَّ الجماعة غير مستعدَّة للانخراط في المشاورات الجارية، ممَّا يعقِّد مِن تحقيق الهدف المنشود مِن وراء هذه اللقاءات والمشاورات التي يجريها المبعوث الأممي في عمَّان.

– تمسُّك قادة “المجلس الانتقالي” بأنَّه الممثِّل الوحيد للمحافظات الجنوبيَّة والشرقيَّة، وسعيهم لإلغاء القرار الدُّولي (2216)، وفي هذا السياق لا يستبعد أن يطرح وفد “المجلس” مع المبعوث الأممي، خلال لقاءه المرتقب، مطالبه بالانفصال.. إلخ. وهذه المواقف سوف تضيف تعقيدات أخرى لهذه المشاورات.

– انقسام دوافع القوى اليمنية التي تعارض مشروع الانفصال الانتقالي، ومشروع الانقلاب الحوثي، وتمايزها إلى ثلاث اتِّجاهات. حيث يرى القسم الأوَّل، بما في ذلك حزب الإصلاح، بأنَّ أيَّ تسوية سياسيَّة يجب أن ترتكز على المرجعيَّات الثَّلاث (المبادرة الخليجية، مخرجات الحوار الوطني، القرار 2216)، وأن يكون الحوار حصرًا بين الحكومة وجماعة الحوثي. ويطالب القسم الثاني بتغيير بعض قيادات “الشرعية”، بما في ذلك نائب الرئيس، تحت عنوان إصلاح مؤسَّسات الشرعية. فيما يرى القسم الثالث أولوية عودة قادة الدولة إلى الداخل، ومِن ثمَّ بحث كلُّ القضايا، بما في ذلك تغيير قيادة الشرعية.

– بشأن سلوك “التحالف العربي” في التعامل مع الأزمة اليمنية، في ظلِّ التطوُّرات الدولية، وتوتُّر العلاقة مع واشنطن، يبدو أنَّ الإمارات العربية المتحدة نجحت في انتزاع القرار (2624)، مِن مجلس الأمن، ولم تعارض روسيا ذلك القرار، إلَّا أنَّ التنسيق بين الولايات المتحدة و”التحالف العربي” فيما يخصُّ الأزمة في اليمن لا يبدو أنَّه يمضي في الاتِّجاه الذي يرغب به التحالف. وقد رفضت المملكة العربية السعودية رفع إنتاج النَّفط، وطلبت مساعدة واشنطن في حرب اليمن. ولكن، لا يبدو أنَّ هناك مؤشِّرات حول تحقيق هذه المطالب السعودية، على الأقل في الوقت الراهن، ممَّا سينعكس سلبًا على مسارات الحرب والسلام.

– بالنسبة للموقف الإيراني لا يبدو أنَّه قد تغيَّر؛ ولذا فإنَّ استمرار إيران في دعمها السياسي والعسكري لجماعة الحوثي يعقِّد الحلَّ السياسي.

الصُّعوبات التي تواجه المشاورات الجارية:

مِن الواضح أنَّه لا يزال هناك صعوبات كبيرة تنتصب أمام المشاورات الحاليَّة، ويأتي على رأسها غياب جماعة الحوثي عن المشاورات، وضعف دور بعض الأحزاب السياسية التي يتشاور معها المبعوث الدُّولي حاليًّا، وتدهور الوضع الاقتصادي والإنساني الذي يُتوقَّع أن يزداد سواءً، وخاصَّة في جانب الغذاء، بفعل تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وظهور فواعل محليَّة أخرى كثيرة تطالب بالاعتراف بها كـ”المجلس الانتقالي”. ولذلك، يتَّضح أنّه مِن المهم إجراء النقاشات مع القوى الفاعلة التي لها حضور عسكري على الأرض، والاستماع لوجهة نظرها؛ وهذا لا يمنع أيضًا مِن الاستماع لمنظَّمات المجتمع المدني والقوى اليمنية الأخرى بما في ذلك المرأة. وعلى المستوى الإقليمي لا يزال الحوار بين إيران والسعودية يراوح مكانه، وهذا له تأثير مباشر على الأزمة اليمنية.

السيناريوهات المتوقعة:

السيناريو الأوَّل: الخروج برؤية واضحة مِن هذه المشاورات، ويعتمد ذلك على مدى الاستماع إلى وجهات نظر جميع القوى اليمنية، بما في ذلك جماعة الحوثي، وعلى تجاوب جميع الأطراف المعنيَّة، ومِن ثمَّ بلورة مخرجات هذه المشاورات في إطار خطَّة شاملة مِن قِبل مكتب المبعوث الدُّولي لتبنِّيها تحت الفصل السَّابع، في حال رفضت بعض الأطراف القبول بها في المستقبل.

السيناريو الثَّاني: استمرار المشاورات لفترة أكثر مِن المتوقَّع مع أطراف يمنيَّة دون أخرى، مع بقاء استمرار التصعيد العسكري، والانزلاق إلى مواضيع غير جوهريَّة، مثل: إصلاح مؤسَّسة الرئاسة، وتغيير شخصيَّات فيها، وحول “اتِّفاق الرياض” وغيرها، ويبدو أنَّ هذا السيناريو هو المرجَّح.

السيناريو الثَّالث: فشل المحاولات الدولية لتحقيق التسوية، ورفض الحوثيين التعاطي مع المبعوث الدولي، وهذا يعني استمرار الصراع العسكري، واتِّساع دائرة الأزمة الإنسانية؛ ولا يستبعد أن تدخل القضية اليمنية في ملف النسيان، خصوصًا وأنَّ هناك أزمات دولية أخرى أكثر سخونة مِن الأزمة اليمنية. 

الخلاصة:

تمثل العودة إلى المشاورات مع الأحزاب السياسية لبلورة رؤية جديدة للسلام خطوة في الاتجاه الصحيح، خاصَّة بعد أن غيِّب دور الأحزاب خلال السنوات الماضية، وتصدَّر المشهد العسكري على المشهد السياسي، مع التشديد على الحاجة لأن تشمل كلُّ المشاورات القوى اليمنية الفاعلة، بما في ذلك جماعة الحوثي، حتَّى تخرج بتصوُّر واضح لأيِّ عملية سياسية مستقبلية، وأن تكون الأولوية لبلورة خطَّة واضحة للتسوية السياسية القادمة بشكل كامل، وليس الخوض في تجزئة الحل السياسي الذي لن يؤدِّي إلى إنهاء الوضع القائم، بل قد يقود إلى مزيد مِن الفوضى، وتأجيل أيِّ حديث عن إصلاح مؤسَّسات “الشرعية”، وتغيير قياداتها في ظلِّ  الأوضاع  الأمنية والاقتصادية والعسكرية الرَّاهنة، لأنَّ هذا قد يقود إلى خلافات أكثر مما هو حاصل.

توصيات للمبعوث الأممي وصنَّاع السياسات:

–  التركيز في المشاورات على القوى السياسية والجماعات المحلية الفاعلة على الأرض، وتوسيع المشاورات الجارية مع الفاعلين الإقليميِّين، يصبُّ في صالح أيِّ تسوية سياسيَّة قادمة.

– التركيز على المرجعيَّات السابقة، التي تؤكِّد على سلامة الجغرافيا السياسية لليمن ما بعد الحرب، يصبُّ في صالح الأمن والاستقرار الداخلي والإقليمي.

– يًفضَّل أن يبحث المبعوث الدولي عن إيجاد آليَّة واضحة للتعامل مع جماعة الحوثي، في حال رفضت الرؤية الأمميَّة الجديدة، بما في ذلك حثُّ الدُّول دائمة العضويَّة في مجلس الأمن على إيجاد وسائل لتنفيذ القرار الدُّولي الأخير (2624)، والذي يحظر تصدير الأسلحة إلى جماعة الحوثي مِن خلال اعتراض شحنات تهريب الأسلحة التي يتمُّ تهريبها للحوثيين، وفي حال تحقَّق ذلك فإنَّ مستوى التصعيد العسكري سوف ينخفض، وسينعكس ذلك إيجابًا على مسار المشاورات الحالية، كمقدِّمة للتسوية السياسية الشاملة. وإذا لم تجنح جماعة الحوثي لأي عمليَّة سياسية فإنَّ أفضل وسيلة للتَّعامل معها استصدار قرار دولي مِن مجلس الأمن يصنِّفها “جماعة إرهابيَّة”، والتعامل معها وفقًا لقرارات الشرعيَّة الدوليَّة.

– ولكي تنجح المشاورات التي يقوم بها المبعوث الأممي لبناء الثِّقة لا بدَّ مِن التركيز على الوضع الإنساني وفتح الطرقات بين المحافظات لتسهيل حركة المواطنين.

– يُفضَّل بعد انتهاء المشاورات أن يقدِّم المبعوث الأممي رؤيته للحل الشامل، وليس تجزئة الحل كما فعل سلفه “غريفيث”، وأن تتضمَّن خطَّته الجوانب الأمنية والعسكرية والسياسية في آن واحد. وأن يكون وقف إطلاق النار، والوضع الاقتصادي، والإنساني على سلم الأولويات في أيِّ رؤية مستقبليَّة كمقدِّمة، ومِن ثمَّ البدء بتنفيذ الجوانب العسكرية والأمنية وصولًا إلى الشراكة السياسية الشاملة. وفي هذا السياق يجب التركيز على أنَّ أيَّ تسوية سياسية لا يتم البدء فيها بالجوانب الأمنية والعسكرية، لا يمكن أن تنجح، وفشل “اتِّفاق السِّلم والشَّراكة” الموقَّع عليه في عام 2014م، و”اتِّفاق الرياض” الموقَّع عليه في عام 2019م، خير دليل على ذلك.

–  طرح تشكيل مجلس رئاسي في المشاورات الجارية، في ظلِّ استمرار الحرب، لن يقود إلى سلام دائم ومستدام. لكن، بعد وقف الحرب بالإمكان التَّوافق على خطَّة واضحة للعملية الانتقالية بما في ذلك تشكيل مجلس رئاسي يدير العملية الانتقالية.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى