الحوثيون والزيدية التطويع والممانعة
Getting your Trinity Audio player ready... |
مقدِّمة:
لا يمكن إدراك أبعاد السُّلوكيات والممارسات السِّياسية لأيِّ مكوِّن اجتماعي بعيدًا عن الغوص في الفكر والثَّقافة المؤسِّسين لرؤية هذا المكوِّن لذاته وللآخر المختلف عنه. فخلف كلِّ سلوك وممارسة هناك فكر وثقافة تقف كباعث له، وموجِّه لتحرُّكاته. وجماعات العنف والتَّوحُّش والإرهاب -أيًّا كان انتماؤها ومعتقدها- تشترك في أنَّ لديها أفكارًا وثقافة تعزِّز هذه السُّلوكيات العنيفة والممارسات المتوحِّشة والأعمال الإرهابية. وبرغم كلِّ ما كتب عن الشَّأن اليمني منذ 2014م، إلَّا أنَّ الكثير مِن التَّقارير والبيانات والأوراق البحثية تجنَّبت الخوض في البعدين الفكري والثَّقافي، إلَّا القليل مِنها.
اليوم، وبعد ثمان سنوات مِن إمساك جماعة الحوثي بالسُّلطة في صنعاء، عقب خروجها وتمرُّدها على الدَّولة في 21 سبتمبر 2014م، ورفضها للتَّعايش مع القوى اليمنية الوطنية التي وقَّعت على مضض وإكراه “اتِّفاق السِّلم والشَّراكة”، في ذات اللَّيلة التي أسقطت فيها صنعاء بقوَّة السَّلاح وبشكل دموي، لا تزال جماعة الحوثي تتصدَّر أعمال العنف والتَّوحَّش والإرهاب حسب كثير مِن التَّقارير المحلِّية والإقليمية والدُّولية. فهي لا تمارس دور الدَّولة بل دور العصابة المختطفة للدَّولة، وجماعات العنف المتغلبة على السُّلطة. وهذا يدفع إلى مزيد أهمية لبحث الأفكار والثَّقافة التي تقوم عليها هذه الجماعة، وكيف تحوَّلت مِن “منتدى” ثقافي يبكي “قميص زيد” إلى “مجلس أعلى” مستولٍ على عرش اليمن حاملًا “سيف يزيد”!
هذا المشهد “التِّراجيدي” الذي يقود إلى نهاية عدمية ابتَدَأَ في اليمن منذ أكثر مِن ألف عام، للتَّأسيس لأوَّل عقيدة سياسية صلبة، تجمع بين النَّظرة العنصرية السُّلالية والعصبية المذهبية، جاعلة مِن اليمن ميدانها الذي تأبى إلَّا أن تحكمه بقوَّة السَّيف ومنطق العنف؛ وبعيدًا عن التَّعايش والتَّشارك والتَّوافق. فعقيدة “الاصطفاء” السُّلالي، و”الولاية” التي تنصُّ على أنَّ الحكم “حقٌّ إلهي” لتلك السُّلالة، ظلَّت محور الصِّراعات على امتداد الجغرافيا والتَّاريخ اليمني، منذ دخول يحيى بن الحسين الرَّسي، المعروف بالإمام “الهادي”، لصعدة.
انتهت هذه “التِّراجيديا” بثورة 26 سبتمبر 1962م، التي تمكَّنت مِن إطاحة هذه العقيدة لتعزِّز لوحدة الدِّين والجنس والوطن، ومبدأ التَّعايش والمشاركة والتَّوافق، بعيدًا عن أي دعاوى “ثيوقراطية” وعصبية “سلالية”. ثمَّ جاء بيان علماء الزَّيدية عام 1990م، ليجعل تلك العقيدة ضمن الموروث التَّاريخي الذي تجاوزه الزَّمن وعفت عليه التَّغيُّرات البشرية. غير أنَّ جماعة الحوثي -ومنذ مطلع تسعينيَّات القرن الماضي- سعت إلى إحياء هذه العقيدة، ولكن بشكل جديد وسنحة مختلفة. فقد تمكَّن الأب الرُّوحي لها (وهو بدر الدِّين الحوثي) مِن المزاوجة بين مذهبين، لطالما افترقا مِن زمن الإمام زيد بن علي، وهما: الزَّيدية والاثنا عشرية، ليخلق مِنهما شكلًا جديدًا مِن الأفكار القاتمة والثَّقافة الدَّموية.