مدونة السلوك الوظيفي التابعة للحوثيين.. خطوة إضافية لتعقيد الصراع

Getting your Trinity Audio player ready...

 

مقدمة:

أعلنت جماعة الحوثي، يوم الاثنين، الموافق 7 نوفمبر 2022م، بدء العمل بما يُسمَّى “مدوَّنة السلوك الوظيفي وأخلاقيات العمل في وحدات الخدمة العامة”، وذلك في المناطق الواقعة تحت سيطرتها. وبالفعل، فقد مضت الجماعة في إجراءات تنفيذها، وإحالتها إلى قضية للحشد والتعبئة. وقد تضمَّنت المدونة الكثير مِن الأمور التي أثارت مخاوف الموظفين، واستثارت غضبهم، واقتضت ردود فعل مِن الجهات الرسمية والشعبية.

فما هي مدونة السلوك الوظيفي التي أعلنت جماعة الحوثي عنها؟ وما هي الغايات التي تقف خلفها؟ وما التداعيات التي يُمكن أن تتركها على الصراع الدائر في اليمن؟

مفهوم “مدونة السلوك”

ظهرت مدوَّنات السلوك في النصف الثاني مِن القرن العشرين، بهدف تحديد القيم والمعايير والمبادئ التي تتَّصل بأخلاقيات العمل وسلوك الموظف، وتحديد ما هو مرغوب، وما هو غير مرغوب، مِن السلوك، في إطار ممارسة العمل وبيئته، وإرشاد الموظفين إلى الضوابط السلوكية والأخلاقية التي يجب الالتزام بها في التعامل مع المواطنين، أو زملائهم مِن الرؤساء والمرؤوسين، وكذا التعامل مع مستلزمات الوظيفة ومتعلقاتها، مع ضرورة أن تكون القيم والمعايير والمبادئ والضوابط التي تستند إليها مستمدَّة مِن الثقافة والقيم العامة المشتركة في المجتمع، وإلَّا كان دورها سلبيًّا.

وقد ظهرت هذه المدوَّنات في بداية الأمر في منظمات الأعمال والقطاع الخاص، وأخذت بها بعض الدول مؤخَّرًا، ومِنها عدد مِن الدول العربية، كالأردن ومصر والسعودية.

السياق:

جاء الإعلان عن مدونة السلوك الوظيفي مِن قبل جماعة الحوثي في ظل أوضاع سياسية تتَّسم بالتالي:

1- توقف الحرب بفعل الهدنة الإنسانية التي بدأ العمل بها مفتتح شهر أبريل الماضي، وهي هدنة -وإن كانت الجهود لتجديدها قد فشلت حتى الآن- إلَّا أنَّها وفَّرت للحوثيين مساحة كبيرة للتعاطي مع الملفات التي كان يتم تأجيلها بسبب ظروف الحرب، ومِنها ملف التعامل مع الموظفين الحكوميين، وجهاز الدولة الإداري.

2- وبالمثل، فإذا كانت جهود صرف مرتَّبات الموظفين في مناطق سيطرة الحوثيين قد فشلت، بسبب مطالبهم غير المنطقية، إلَّا أنَّ القيادات الحوثية لديها قناعة بأنَّهم سيتمكَّنون في الأخير مِن إجبار دولتي “التحالف العربي”، و”مجلس القيادة الرئاسي”، على دفع المرتبات بحسب شروطهم، وأنَّ الإعلان عن هذه المدوَّنة يأتي في إطار الاستعداد لترتيب أوضاع الموظفين وتكييف عملية الصرف بما يخدم أهدافهم.

3- كما أنَّ الإعلان عن هذه المدوَّنة جاء في سياق إقليمي ودولي مواتٍ لهم، في ظلِّ الحاجة الدولية إلى تهدئة الملف اليمني، بسبب مونديال كأس العالم لكرة القدم، والمقام في دولة قطر، والحرب الروسية الأوكرانية، وتوتُّر العلاقات السعودية الأمريكية.                (صورة لكاس العالم في قطر)

دوافع وأهداف الحوثيين:

تظهر القراءة المعمَّقة للمدوَّنة، ومضي الحوثيون في تنفيذها، أنَّهم يرمون إلى تحقيق الأهداف التالية:

1- إحكام السيطرة على الجهاز الإداري للدولة:

وهو الجهاز الذي يضمُّ مئات الآلاف مِن الموظفين، غالبهم يرفضون سيطرة جماعة الحوثي على السلطة بقوة السلاح. فقد تضمَّنت المدونة جملة مِن النقاط التي تمكِّن الحوثيين مِن السيطرة التامة على جهاز الدولة الإداري، مِن خلال إلزام الموظفين بـ:

– توقيع تعهُّد خطِّي بالالتزام بما جاء في المدونة، وحفظ التعهد في ملف الموظف.

– منع الموظفين مِن الإدلاء بأي معلومات لوسـائل الإعلام.

– منع الموظفين مِن النشـر في وسـائل التواصـل الاجتماعي، بـأي معلومـات، أو تقـديم أي وثائـق، أو مسـتندات، أو التعليـق، أو التصريـح، أو المداخلة في أي مواضيع خاصة، ذات علاقـة بوحـدات الخدمة العامـة.

عـدم إصـدار، أو نشـر، بيانـات، أو خطابـات، أو مـواد، أو معلومـات.. تناهـض السياسـة العامـة للدولـة، وتتعـارض مـع النظـام العـام.

– حظر نشر أي إشكاليات إدارية وعملية، أو حتى التعاطي معها في وسائل التواصل الاجتماعي.

– مقاطعــة وســائل الإعلام المعاديــة والمشبوهة -حسب زعمهم، والتحذيــر منهــا.

– التعيين في الوظائف الحكومية، والاستمرار فيها، يتطلَّب التوقيع على المدوَّنة والالتزام بما فيها.

– مخالفة أيِّ بند في المدوَّنة يجعل الموظف عرضة لإجراءات جزائية غير محدَّد سقفها.

(صورة لموظفين يأنتوروا)

2- فرض لون مذهبي واحد على جهاز الدولة الإداري:

فقد كان مِن أبرز معالم هذه المدوَّنة فرض لون مذهبي واحد عليها، وذلك مِن خلال:

أ.  تحديد مرجعيات مذهبية وانقسامية:

فقد حصرت المدوَّنة ما أسمته بالمرتكزات الأساسية لها في: الهدي النبوي (ويُقصد به السنة النبوية بمفهوم الحوثيين، وليس بفهم عموم المسلمين)، عهد الإمام علي لمالك الأشتر، دروس ومحاضرات مِن هدي القرآن الكريم (ويُقصد بها دروس حسين بدر الدين الحوثي مؤسِّس الجماعة)، خطابات ومحاضرات عبدالملك الحوثي، والهوية الإيمانية (مفهوم انقسامي تقدِّمه جماعة الحوثي بديلًا عن الهوية الوطنية الجامعة)،    (صورة لهاشميين بالعمامات)

وكلُّها إمَّا مصادر للفكر الحوثي القائم على الأحادية المذهبية، أو مفاهيم مركزية في هذا الفكر، والمدونة بهذا الأمر تؤسِّس لانقسام عميق وممتد في مؤسَّسات الدولة والمجتمع اليمني، يكون أساسًا لصراع طويل وغير متناهي.

ب. حشر المدوَّنة بمفاهيم مذهبية وانقسامية: ومِنها “المفهوم الايماني”، “الهوية الإيمانية”، “بناء الهوية الإيمانية”، “عهد الامام علي”، “تولِّي الله ورسوله والمؤمنين”، “التَّوجُّه الإيماني”، “الاقتداء بكتاب الله ورسوله وبـأمير المؤمنين علي”، “الالتزام بمبدأ الولاية لله ورسوله والذين آمنوا”، “الارتقاء الإيماني”،… إلخ، وكلُّها مفاهيم انقسامية تحظى برفض تيَّار واسع مِن الشارع اليمني، كما أنَّها تحيل المدونة إلى أداة لفرض لون مذهبي واحد على مؤسَّسات الدولة ومكوِّنات المجتمع.

3- التأسيس لنظام شمولي:

فالمدونة مشبعة بالكثير مِن الإجراءات التي تكرِّس نهجًا شموليًّا، وتفرضه على المجتمع اليمني، ومِن ذلك إلزام الموظفين الحكوميين بالتالي:

أ. العمل مع بقية الجهات على تفعيل البرامج والأنشطة التي تحافظ على الهوية الإيمانية، ومواجهة كافة الأنشطة العدائية.

ب. حمل الروح الثورية، والمشاركة في إحياء المناسبات الدينية والوطنية.

ج. تبنِّي المواقف الواضحة مِن أعداء البلد والأمة، والاشتراك بفعالية في أنشطة التعبئة العامة.

د. الارتقاء الإيماني مِن خلال التفاعل الجاد مع الدورات الثقافية والبرامج التربوية...

 

  1. تحويل المدوَّنة إلى قضية للتعبئة العامة:

إذ يعتمد الحوثيون في إدارتهم للمناطق الواقعة تحت سيطرتهم على خلق قضية في كلِّ مرحلة، وتحويلها إلى عنوان للتحشيد والتعبئة العامة، بحيث تكون الموضوع الرئيس في وسائل الإعلام، وتدشين الفعاليات في الوزارات والمؤسسات والمحافظات والمديريات وغيرها، وبحيث تكون مادة رئيسة لوسائل الإعلام، وبما يمنع تراخي أنصارهم، ويبقيهم في حالة انشداد وتفاعل.

التداعيات:

مِن المرجح أن يترتَّب على إجبار موظفي الدولة على الالتزام بهذه المدونة جُملة مِن التداعيات، مِنها:

1- زيادة السخط الشعبي:

حيث مِن المتوقع أن يؤدِّي فرض الحوثيين للمدوَّنة إلى زيادة الرفض والسخط الشعبي تجاه سلطتهم، بفعل الأسباب التالية:

أ. أنَّ فرض المدونة يظهر الحوثيين بأنَّهم جماعة عقائدية انقسامية، لا تهتم إلَّا بفرض أفكارها على الشعب، دون رضًا مِنه، في الوقت الذي لا يظهرون اهتمامًا بصرف مرتَّبات الموظفين أو التخفيف من معاناة بقية أفراد الشعب.

ب. أنَّ فرض هذه المدوَّنة تنطوي على إذلال للموظفين وامتهان لهم، مما يستدعي زيادة الاحتقان الشعبي ضدَّهم.

ج. ارتياب قطاع واسع مِن المواطنين مِن أنَّ الدافع الرئيس مِن فرض المدونة هو وجود نية لمضايقة الموظفين، وإقصاء عدد مِنهم بحجَّة عدم التوقيع عليها، والادِّعاء بمخالفة ما جاء فيها.

د. يظهر الحوثيون الجانب الانتهازي لديهم، ففي الوقت الذي تتوافر فيه مؤشِّرات على أنَّ السلطة الشرعية، وربَّما المملكة العربية السعودية أو دولة قطر، قد تتكفَّل بدفع مرتَّبات الموظفين، يستبق الحوثيون هذا الأمر بهذه الإجراءات بما يمكِّنهم مِن استغلالها لإذلال الموظفين أو حرمانهم مِن مرتباتهم، وربَّما مِن وظائفهم أيضًا.

2- تعقيد الجهود الهادفة لتجديد الهدنة:

فالمدونة تسهم في تراجع الثقة بين أطراف الصراع في اليمن، ومِن المتوقَّع أن تزيد مِن تعقيد الأوضاع في اليمن، وترجِّح كفَّة فشل الهدنة، وإمكانية العودة إلى مربَّع الحرب مِن جديد، لأنَّها تضع مجلس القيادة الرئاسي تحت ضغط كبير مِن قِبل أنصاره لعدم منح الحوثيين الكثير مِن المجال لفرض أفكارهم و”حوثنة” الدولة والمجتمع.

3- توفير البيئة لصراع ممتد:

فالصبغة المذهبية للمدوَّنة تخفِّف مِن الطابع السياسي للصراع في اليمن لحساب الصراع المذهبي والعقائدي، وتعمل بشكل كبير على توسيع الفجوة بين الحوثيين مِن جهة وبقيَّة المكونات الشعبية مِن جهة أخرى، بما يجعل الصراع قائمًا على أساس إثني ومذهبي، ويوفر له الكثير مِن عوامل الديمومة والاستمرار.

السيناريوهات:

تُظهِر قراءة البنية الفكرية للحوثيين، وطريقة إدارتهم للمناطق الواقعة تحت سيطرتهم، أنَّ تعاطيهم مع هذه المدوَّنة سيكون في إطار أحد السيناريوهين المحتملين التَّاليين:

السيناريو الأول: قضية للتعبئة المرحلية:

يميل هذا السيناريو إلى أنَّ المدوَّنة عبارة عن قضية يرفعها الحوثيون للتعبئة العامة، وحشد أنصارهم وإعلامهم، وأنَّهم لن يدفعوا بتنفيذها بشكل كامل، للأسباب التالية:

1- الرفض الشعبي الواسع لهذه المدوَّنة، وإدراك الحوثيين أنَّ فرضها يجلب عليهم تبعات كبيرة على المستويين الداخلي والخارجي.

2- إمكانية تراجع الوضع بمجرَّد تجددت الحرب، بين الحوثيين ومجلس القيادة الرئاسي، حيث سيتجه الحوثيون إلى إعادة ترتيب الأولويات، بما في ذلك إمكانية التراجع عن تنفيذ المدوَّنة وتخفِّف الاحتقان الشعبي، وتوجِّه إمكاناتهم نحو الحرب.

3- أنَّ أسلوب الحوثيين في إدارة أجهزة الدولة، والذي يتَّسم بالفساد والمحاباة والتسيس، يتنافى مع أي نزعة للتطوير والتحسين، وهو ما يعني أنَّ المدوَّنة ليست سوى عنوان للمزايدة، والادِّعاء بتبنِّي أساليب وأدوات تطبَّق في النظم المتقدِّمة، ومعه تفتقد وجود إرادة لتطبيقها بشكل كامل.

السيناريو الثاني: إنزال أيديولوجي:

ينطلق هذا السيناريو مِن أنَّ فرض هذه المدوَّنة يمثِّل أولوية إستراتيجية بالنسبة للحوثيين، وأنَّهم سيتغاضون عن أيِّ آثار سلبية تنتج عن تطبيقها، في مقابل الغايات الإستراتيجية التي ترمي إليها. ويسند هذا السيناريو الملامح التالية:

1- أنَّ هذه المدوَّنة هي مكوِّن ضمن توجُّه شامل يستهدف سيطرة الحوثيين على أجهزة الدولة ومكوِّنات المجتمع، وأنَّ وظيفة هذه المدوَّنة هي تمكينهم مِن السيطرة على جهاز الدولة الإداري، وهو الجهاز الذي يُمثِّل نقطة ضعف أساسية بالنسبة للحوثيين، وسيكون دور المدوَّنة مشابها لوثيقة “الشَّرف القبلي”، التي مكَّنتهم مِن السيطرة على رجال وشيوخ القبائل، و”أنَّ هذه المدونة -بحسب مهدي المشاط رئيس ما يُسمَّى “المجلس السياسي الأعلى”- واحدة مِن الخطوات التي ستتوالى والبرامج التي ستُعلَن وتُدشَّن تباعًا”، ومِنها عقد ما يُسمَّى “المؤتمر الوطني الأوَّل لتطوير المناهج وتنويع مسارات التعليم”، والذي يهدف على الأرجح إلى تغيير المناهج التعليمية بشكل كبير، وهناك مخاوف مِن “مذهبتها”، ما يعني أنَّ جماعة الحوثي ماضية في فرض مشروعها الفكري وإنزاله مِن خلال خطوات وأدوات متتابعة.

2- أنَّ الحوثيين كما يظهر مِن خبرتهم السابقة، يعتمدون على المخاطرة، ويعوِّلون على القوَّة في فرض أجنداتهم، ولا يعطون كثير اهتمام للرضى أو السَّخط الشعبي.

3- أنَّ التطورات الإقليمية والدولية ربَّما تخدم الحوثيين، وتمكِّنهم مِن فرض تصوُّراتهم الفكرية، في ظلِّ تراجع خيارات الحسم العسكري مِن قبل كلٍّ مِن دولتي “التحالف” و”مجلس القيادة الرئاسي”.

 

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى