علاقة تحت الضغط: حالة الاشتباك بين واشنطن وكل من الرياض وأبوظبي تحليل على ضوء التفاعلات مع الأزمة الأوكرانية

Getting your Trinity Audio player ready...

 

تمرُّ العلاقة بين الولايات المتحدة وكلٍّ مِن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بمرحلة فتور واضح، وتعاني مِن توتُّر وشدٍّ وجذب. وتأتي الأزمة الأوكرانيَّة ليس فقط لتقدِّم شواهد إضافيَّة على هذا الفتور، ولكن أيضًا لتلقي عليها مزيدًا مِن الضُّغوط، وتعطيها أسبابًا أخرى لزيادة توتُّرها، وبما يضعها أمام اختبار جدِّي على أكثر مِن مستوى.

تسلِّط هذه الورقة الضَّوء على حالة الفتور والتَّوتُّر التي تشهدها العلاقة بين كلٍّ مِن الولايات المتحدة وكلٍّ مِن السعودية ودولة الإمارات، والقضايا الرَّئيسة التي يدور حولها ذلك التَّوتُّر؛ كما تبحث في ارتدادات الأزمة الأوكرانية لجهة ما تتضمَّنه لهذه العلاقة مِن تحدِّيَّات وفرص، وتخلص إلى استكشاف انعكاسات هذا التَّوتُّر على المشهد اليمني.

تــــــوتُّـــــــر:

مواقف وسياسات خليجيَّة ناقدة:

كشفت المقابلة التي أجرتها مجلَّة “ذا أتلانتيك”، الأمريكية، مع ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، ونشرت أجزاء مِنها، في 3 مارس الجاري، عن حجم التَّوتُّر الذي تعيشه العلاقات السعودية الأمريكية. فقد اتَّسم حديث الأمير محمد بن سلمان بجرأة، وبمسحة مِن التَّحدِّي، غير المألوفين؛ إذ قال -على سبيل المثال: إنَّه لا يحقُّ لأي أحدٍ أن يتدخَّل في شئون السعودية. ولوَّح إلى خفض الاستثمارات السعودية في أمريكا. وعن موقف الرَّئيس الأمريكي، جو بايدن، مِنه، وتجاهله له، قال محمد بن سلمان: “ببساطة، أنا لا أكترث”، مضيفًا “الأمر يعود له للتَّفكير في مصالح أمريكا”، وأنَّ مصلحة الولايات المتحدة مع السعودية ذات الاقتصاد الأسرع نموًّا. وقال -في تصريحات مزامنة، نقلتها وكالة الأنباء السعودية الرَّسمية: “كما لدينا فرصة لتعزيز مصالحنا لدينا فرصة لخفضها”.  (محمد بن سلمان)

في ذات اليوم الذي نشرت فيه مقابلة ابن سلمان، المذكورة أعلاه، أي في 3 مارس الجاري، اعترف سفير الإمارات لدى واشنطن، يوسف العتيبة، بوجود مشاكل في علاقة بلاده بالولايات المتحدة: “مثل أيِّ علاقة، فيها أيَّام قويَّة العلاقة فيها صحِّيَّة جدًّا؛ وأيَّام العلاقة فيها موضع تساؤل. واليوم نحن نمرُّ باختبار تحمُّل، لكنِّي أثق أنَّنا سنجتازه، ونصل إلى وضع أفضل”. وكانت صحيفة “وول ستريت جورنال” أشارت، في 3 مارس الجاري أيضًا، إلى أنَّ المسئولين السعوديِّين والإماراتيِّين أصبحوا أكثر صراحة في الأسابيع الأخيرة في انتقاداتهم للسياسة الأمريكية.

وفي السياق الأشمل، تبنَّت السعودية والإمارات سياسة تنويع العلاقات، إذ نسجتا علاقات متنوِّعة مع أهم منافسي الولايات المتحدة، أي روسيا والصِّين؛ وكذلك فعلت دول خليجيَّة أخرى كقطر. وشهدت العلاقات مع موسكو تطوُّرًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، فقد تمَّ عقد صفقات كبيرة لشراء أسلحة روسيَّة، ونمت الرَّوابط الأمنيَّة والاقتصادية والثَّقافية أيضًا. فقد زادت التَّبادلات التِّجاريَّة بين دول الخليج عمومًا وروسيا مِن (3) مليارات دولار عام 2016م إلى (5) مليارات دولار عام 2021م. وتقود السعودية وروسيا، منذ 2016م، تحالف “أوبك بلس”. ولم تكن العلاقات الثقافية استثناءً، فقد تطوَّرت أيضًا حتَّى أن السعودية والإمارات بدأتا منذ عام 2020م بتدريس اللُّغة الصينية في بعض مدارسها.

الخلفيَّات والأسباب:

بدأ الفتور والتَّقلُّب يعتري العلاقات الخليجية الأمريكية، وبشكل واضح، منذ عهد إدارة الرَّئيس “باراك أوباما”. ومع أنَّ هذه العلاقة تحسَّنت في عهد الرئيس “دونالد ترامب” إلَّا أنَّها تدهورت بصورة أكبر بصعود إدارة الرَّئيس “جو بايدن”. وتدور الخلافات مع واشنطن أساسًا حول قضايا الأمن والدِّفاع:

  •  فواشنطن -مِن وجهة نظر الرِّياض وأبو ظبي- لم تفِ بتعهُّداتها تجاه أمنهما، وأمن حلفائها عمومًا، ولا بالالتزامات التي يفرضها التَّحالف الطَّويل معها عمومًا.
  • ظهرت واشنطن كأنَّها غير مهتمَّة بمصالح حُلفائها ومخاوفهم الأمنيَّة، ولا تأخذها في الاعتبار، وتكرَّست عنها صورة الحليف غير المأمون والذي يتخلَّى عن حُلفائه بسُهولة. ويبدو الأمر كما لو أنَّ الدَّولتين وصلتا إلى قناعة بعدم الاعتماد على واشنطن كضامن لأمنهما.
  • إذا كانت التَّهديدات التي تمثِّلها إيران، وسياساتها في المنطقة، في صلب ما يهمُّ الدَّولتين، فمواقف وسياسات واشنطن لم تكن بحجم هذه التَّهديدات، ولم تلبِّ أيضًا الاحتياجات الأمنيَّة والدِّفاعية لحلفائها. فقد أبرمت واشنطن اتِّفاقًا مع طهران، عام 2015م، بشأن ملفِّها النَّووي، دون التشاور مع السعودية والإمارات. ومازالت الدَّولتان تراقبان مفاوضات “فيينَّا” لإحياء الاتِّفاق النووي، التي تجري أيضًا دون مشاركتهما، والتي تمرُّ اليوم بمرحلة حاسمة؛ ولديهما مخاوف بألَّا يأخذ أيُّ اتِّفاق يمكن التَّوصُّل إليه مصالحهما ومخاوفهما في الاعتبار. (اتفاق السلاح النووي الإيراني)
  • في حرب اليمن، ومع أنَّ واشنطن قدَّمت دعمًا سياسيًّا، ونوعًا مِن الدَّعم العسكري للسعودية وحلفائها، إلَّا أنَّ هذا الدَّعم ما لبث أن تراجع مع مرور الوقت، وصولًا إلى وقف إدارة بايدن دعمها لعمليَّات تحالف دعم “الشَّرعيَّة”، الذي تقوده السعودية، وعلَّقت مبيعات الأسلحة للسعودية والإمارات؛ ومع أنَّها عادت ورفعت تحفُّظاتها عن هذه الصَّفقات إلَّا أنَّها -ووفقًا لوكالة “أسوشيتد برس”، في 11 سبتمبر الماضي- قامت بسحب بعض منظوماتها الدِّفاعيَّة الصَّاروخيَّة مِن السعودية، في الوقت الذي تتعرَّض فيه الأخيرة لهجمات جماعة الحوثي بالصواريخ والمسيَّرات. وهذه قضيَّة أشار إليها الرئيس السابق للاستخبارات السعودية وسفير المملكة الأسبق لدى واشنطن، الأمير تركي الفيصل، في حديث له مع شبكةC.N.B.C.” “، مطلع سبتمبر الماضي.

وما برحت الشروط التي تفرضها واشنطن على مبيعات السلاح، وكذلك قضايا حقوق الإنسان، والاعتبارات الأخلاقية لدى المؤسَّسات الحاكمة في واشنطن، تضيف ضغوطًا وأعباءً على هذه العلاقة. وثمَّة حالة مِن عدم الاطمئنان لدى حكَّام الخليج تتعلَّق بكون القوانين الأمريكية تتيح للقضاء الأمريكي قبول دعاوى ضدَّ دول وحكَّام وأفراد مِن الأسر الحاكمة (أجانب)، كتلك الدَّعوى المرفوعة ضدَّ ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، حول مصفاة نفط في جزيرة في البحر الكاريبي.

وفي السياق ذاته، سيظلُّ قانون “العدالة ضدَّ رعاة الإرهاب”، (Justice Against Sponsors of Terrorism Act)، المعروف اختصارًا باسم “جاستا- JASTA”، مثلًا، تهديدًا قائمًا لحكَّام ومواطني بقيَّة الدُّول المتهمة في أحداث سبتمبر. على الأقل كما تقول ظواهر الأمور في السَّنوات الماضية. وخلال السَّنوات السَّبع الأخيرة، أظهر السياسيُّون الأمريكيُّون مواقف، وأطلقوا تصريحات، تنتقص مِن حكَّام الخليج، ومثَّلت إحراجًا لهم ولدولهم، وهذه قضيَّة حسَّاسة لدى هؤلاء، خصوصًا وأنَّها تمسُّ صورتهم وصورة دولهم داخليًّا وخارجيًّا. (احداث الحادي عشر من سبتمبر)

وقد أثار سياسة الانسحاب وتوجُّه الولايات المتحدة لإعادة ترتيب أولويَّاتها في العالم، وتقليص دورها في المنطقة، والتَّركيز على منطقة المحيط الهادي، والفراغ الذي خلَّفته في الشرق الأوسط، مخاوف دول الخليج، وأشعرتها بالحاجة إلى تعويض الدعم الأمريكي لأمنها، وساعدت في موازاة ذلك على توسُّع نفوذ روسيا المندفعة نحو المنطقة.

وبالنَّظر إلى تحكُّم قضايا حقوق الإنسان بالعلاقة مع واشنطن، والقيود التي تفرضها على هذه العلاقة، وكنوع مِن المقاومة لها، زادت أهميَّة روسيا كحليف “أيديولوجي”. وهذا التَّوجُّه مدفوع أيضًا بالتهديد الإيراني، والسعي لإيجاد توازن مع طهران؛ وعلى الأرجح فقد ساعدت عليه وشجعته براغماتية سياسية. فمع الصُّعود الروسي الصيني ربَّما وصلت الدَّولتان إلى قناعة بأنَّ العالم على عتبة ولادة نظام متعدِّد الأقطاب، وأنَّ عليها التَّحضُّر للتعامل مع تغيُّر كهذا والاستفادة مِنه. 

تداعيات الأزمة الأوكرانية:

  1. ضغوط إضافية وفرص

بقدر ما تعطي مِن شواهد إضافيَّة على ما تعانيه علاقة واشنطن بكلٍّ مِن السعودية والإمارات مِن فتور ومتاعب، تفتح الأزمة الأوكرانية الباب لمزيد مِن تدهور هذه العلاقة، وبما قد ينقل الخلافات إلى المستوى التالي:

– فالدَّولتان لم تظهرا مواقف متوائمة مع واشنطن، والتي تقود العالم الغربي والتَّحرُّك على المستوى الدُّولي لمواجهة روسيا.

– وأظهرتا عوضا عن ذلك أنَّهما لا تريدان الانجرار إلى الموقف الأمريكي والغربي؛ فالسعودية لم تعلِّق على الاجتياح الرُّوسي لأوكرانيا، وامتنعت الإمارات عن التَّصويت في مجلس الأمن على إدانة العملية العسكرية الرُّوسية في أوكرانيا.

– وهذا موقف تشاركته الدَّولتان مع بقيَّة دول الخليج، كالكويت وقطر، واللَّتان اكتفتا بإدانة العنف دون إدانة روسيا. هذا على الرَّغم مِن أنَّ كلَّ دول الخليج صوَّتت لصالح قرار الجمعية العامة الذي يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، ويطالب موسكو بالانسحاب فورًا، لم يفرض أي منها عقوبات على روسيا. (حرب أوكرانيا)

– ومن جهة نظر أخرى، ومع أنَّ الولايات المتحدة وحلفائها الأوربِّيِّين ينظرون إلى السعودية والإمارات كمصدر لتعويض النَّقص في إمدادات النَّفط في السُّوق العالمية، وذلك باعتبار أنَّهما الدَّولتان القادرتان على ضخِّ ملايين البراميل الإضافية، إلَّا أنَّ الدَّولتين لم تستجيبا للدَّعوات المطالبة لهما بزيادة ضخِّ النَّفط. وأكَّدت الرياض التزامها بخطط إنتاج سبق الاتِّفاق عليها ضمن تكتُّل “أوبك بلس”، والذي يضم مجموعة “أوبك” ومنتجين آخرين على رأسهم روسيا. وذهبت الدَّولتان في هذا الرَّفض بعيدًا؛ فقد ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال”، في 8 مارس الجاري، أنَّ الرئيس الأمريكي “جو بايدن” كان يخطِّط للاتِّصال بولي العهد السعودي وولي عهد أبو ظبي، لكنَّهما رفضا ذلك، هذا مع أنَّهما سبق وأجريا أو تلقيَّا مكالمات هاتفيَّة مِن كلٍّ مِن الرئيسين الرُّوسي والأوكراني.

– وقاومت الدَّولتان الضُّغوط لزيادة إنتاج النَّفط، وأظهرتا موقفًا ثابتًا حتَّى الآن، بالرَّغم مِن تشاركهما بقيَّة دول العالم المخاوف مِن نتائج الارتفاع المفرط في أسعار الطَّاقة على استقرار الاقتصاد العالمي. وعلى الرَّغم مِن مخاوفها وبقيَّة منتجي الطَّاقة مِن أن يشكِّل هذا الارتفاع دفعة كبيرة باتِّجاه تبنِّي وتمويل مشاريع للطَّاقة البديلة للنَّفط، وهو ما سيكون في غير صالح المنتجين. وسبق للرِّياض أن صرَّحت بأنَّها لا ترغب في أن يتجاوز سعر برميل النَّفط (100) دولار، معتبرة أنَّ هذا السَّعر سعر آمن.

وعلى أية حال، فهناك ما أسهم في خروج الدَّولتين بهذه المواقف القوية المخالفة للمألوف الخليجي. فقد أبدت دول أخرى ذات المواقف، كدولة كقطر التي ينظر إليها كمصدر لتعويض النَّقص في إمدادات الغاز، وكان هذا محور محادثة بايدن وأمير قطر في زيارة الأخير لواشنطن نهاية يناير الماضي. وهي كذلك مواقف كلُّ الدول العربية تقريبًا، ومواقف دولة إقليمية مهمَّة كتركيا.

تحديات وفرص:

يفترض أنَّ السعودية والإمارات لا تريدان خسارة واشنطن، ولا تزالان تؤكِّدان على أنَّ الولايات المتحدة شريك رئيس لهما، غير أنَّ الأزمة الأوكرانية تنطوي على بعض التَّحدِّيات لهذه العلاقة، ويمكن أن تنتهي بإلحاق مزيد مِن الأذى بهذه العلاقة؛ لأنَّها تدفع باتِّجاه ما يشبه حالة الاستقطاب في العلاقات الدُّولية:

  •  فالأزمة الأوكرانية تشكِّل اختبارًا جادًّا للاستثمار السعودي الإماراتي في العلاقات مع روسيا؛ فالتَّجاوب مع مطالب واشنطن وحلفائها سيكون على حساب الرَّوابط المتنامية مع موسكو، وسوف يلحق بها الضَّرر، بما في ذلك التحالف السعودي -الروسي النَّفطي، والذي تحرص الرياض عليه، وأعلنت التزامها بالاتِّفاقات المعقَّدة تحت مظلَّته. 
  • بعبارة أخرى، يصعب على الدَّولتين الاستجابة للمطالب الأمريكية مثلما يصعب عليهما الإبقاء على مواقفهما الرَّاهنة دون تكلفة؛ وسيكون عليهما تأمين توازن صعب، فالأمر أشبه باللُّعبة الصِّفرية، يصعب معها إمساك العصا مِن الوسط.
  • ولن تكون الدَّولتان قادرتين عمومًا على الحصول على كلِّ شيء، وستحاولان قدر ما يمكنهما الخروج مِن مأزق كهذا؛ ومِن خياراتها في ذلك السَّعي لوقف الحرب بأسرع ما يمكن. 
  • وفي هذا السياق يمكن التَّذكير بالمكالمات الهاتفية بين كلٍّ مِن ابن سلمان، وابن زايد، بالرَّئيسين الرُّوسي والأوكراني، والإشارة إلى زيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى موسكو، في 17 مارس الجاري، وعرضه الوساطة بين روسيا وأوكرانيا.
  • ومِن بين الخيارات التي قد تطرقها الدَّولتان محاولة التَّوصُّل إلى تفاهمات مع روسيا بشأن ضخِّ مزيد مِن النفط، على أساس أنَّ ذلك ضروري، لتجنُّب الآثار السلبية على استقرار الاقتصاد العالمي، والتي ستلحق أو تنال من الجميع. (بوتين + محمد بن زايد)

وما يزيد مِن حرج الموقف أنَّ هذه الأزمة لا تتيح للدَّولتين الكثير مِن الوقت في تعاملهما مع مطالب واشنطن وحلفائها، المتعلِّقة بزيادة الإنتاج؛ فتداعيات الأزمة تتفاقم مع مرور الوقت، وكلَّما تأخرتا عن التَّجاوب كلَّما زاد حنق واشنطن عليهما، وكلَّما ووجهتا بموقف أمريكي وغربي غير ودِّي كلَّما قلَّت قدرتهما على استغلال الفرص التي تقدِّمها هذه الأزمة. وقد تتفهَّم واشنطن وحلفاؤها عدم فرض الدَّولتين عقوبات على موسكو حال كان هناك تجاوب في مسألة زيادة الإنتاج النفطي، إذ ستبدو المسألة الأولى أقلُّ أهميَّة، إلَّا أنَّهم لن يتفهَّموا عدم التَّجاوب في المسألتين ولفترة طويلة. والحاصل أنَّ الدَّولتين تبدوان وكأنَّهما في غير عجلة مِن أمرهما، أو غير مضطرَّتين للاستجابة السريعة لدعوات تعويض أسواق الطَّاقة؛ وقد تكونا واقعتين تحت إغراء استغلال ما يجري لتأمين أكبر قدر مِن المداخيل، وقد يأملان كذلك في الوصول إلى صفقة تنهي الأزمة الأوكرانية، تعفيهما مِن اتِّخاذ أيِّ خطوات في هذا الصَّدد، لكنَّهما في الحقيقة لا تمتلكان ترف المماطلة.

في المقابل، تقدِّم هذه الأزمة بعض الفرص المشروطة لترميم علاقة الدَّولتين بواشنطن:

  1.  فحاجة الأسواق العالمية للسُّعودية والإمارات لتعويض النَّقص في إمدادات النَّفط تمنحهما ورقة لمساومة واشنطن، ومساحة لممارسة درجة مِن النُّفوذ. وقد ظهرت روح المساومة في حديث ولي العهد السعودي، لمجلة “ذا أتلانتيك”، عندما قال: “الولايات المتحدة تعي ما ينبغي فعله مِن أجل تنمية مصالحها السياسية والاقتصادية معنا”، وإنَّه “كما لدينا فرصة في تعزيز مصالحنا مع واشنطن، لدينا فرصة في خفضها”.
  2.  غير أنَّ ورقة كهذه يمكن أن تكون سلاحًا ذا حدَّين، وسيكون عليهما استخدامها بحذر واحترافيه، فالمبالغة في الضَّغط والتَّأخُّر في التَّجاوب مع مطالب واشنطن وحلفاؤها، في مواجهة تداعيات الأزمة الأوكرانية، قد يلحق ضررًا إضافيًّا بالعلاقة معهم يصعب إصلاحه بسهوله، وستعاني مِنه الدَّولتان لفترة طويلة.
  3. وثمَّة فرصة أن تقود هذه الأزمة إلى استعادة منطقة الشرق الأوسط لمكانتها في الإستراتيجية الأمريكية؛ فهي تكشف عن أهميَّة دولها، والأدوار التي يمكنها أن تلعبها، كما تكشف عن أهمية الاحتفاظ بعلاقة جيِّدة بدول، كالسعودية والإمارات. وقد علَّق السيناتور الأمريكي، ماركو روبيو، مثلًا، على تقارير رفض استقبال ابن سلمان وابن زايد مكالمات بايدن، على حسابه في تويتر، في 9 مارس الجاري، قائلًا: “آمل أن يعيد السعوديون والإماراتيون النَّظر..
  4. لكن الرسالة هنا إلى بايدن واضحة للغاية.. إذا كنت ستطالبهم بممارسة ضبط النَّفس عندما يتعرَّضون للهجوم مِن قبل إيران، فسوف يمارسون أيضًا ضبط النَّفس عندما تهاجم روسيا دولة أوربِّيَّة”. وفي اليوم ذاته، ربط الدُّبلوماسي الأمريكي السَّابق، ألبيرتو كيغيل فيرنانديز، هذا الموقف بموقف الإدارة الأمريكية مِن جماعة الحوثي في اليمن، إذ قال -ساخرًا مِن إدارة بايدن، في تغريدة له على تويتر: “أمضت إدارة بايدن عامها الأوَّل في تمكين الحوثيِّين وإيران، وهاتان الدَّولتان العربيَّتان الغنيَّتان بالنَّفط لا تظهر تقديرهما؟ يا لها مِن مفاجأة صادمة!”. (هجمات حوثية على السعودية)
  5. ووفقًا لبعض التَّقارير، فالبيت الأبيض بدأ العمل على إصلاح العلاقات مع السعودية؛ فقد أكَّدت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، في 28 فبراير الماضي، سفر مسئولين أمريكيِّين إلى المنطقة، لإجراء مباحثات مع مسئولين خليجيِّين حول عدَّة موضوعات مِنها أزمة اليمن والتَّداعيات المتوقَّعة للأزمة الأوكرانية على أسواق النَّفط، وأنَّه -ولهذا الغرض- أيضًا سبق أن توجَّه منسِّق الشَّرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، بريت ماكغورك، ومبعوث وزارة الخارجية لشئون الطَّاقة، عاموس هوشستين، إلى الرياض، أواخر الشهر الماضي. ووفقًا لموقع  “أكسيوس-AXIOS” الأمريكي، في 7 مارس الجاري، فمستشاري بايدن يدرسون ترتيب زيارة له إلى السعودية هذا الربيع، للمساعدة في إصلاح العلاقات معها، وإقناعها بضخِّ المزيد مِن النَّفط.

وتبقى مسألة استغلال الفرص لتسوية العلاقة مع واشنطن، وتجنُّب التَّحدِّيات التي تهدِّد بتعقيدها وتأزيمها، متعلِّقة بقدرة الدَّولتين على الموازنة بين كثير مِن المتناقضات، وعلى اختيار التَّوقيت المناسب لكلِّ خطوة تقدمان عليها. 

الانعكاسات على حرب اليمن:

كما سلفت الإشارة، مثَّلت الأزمة اليمنية قضيَّة بارزة لاختبار العلاقة بين واشنطن وكلٍّ مِن السعودية والإمارات وتأزيمها، وستظلُّ تمثِّل نقطة تثير التَّوتر في هذه العلاقة؛ وقد انتهي الحال بتعطيل الفعل العسكري للتَّحالف نتيجة توقُّف الدَّعم العسكري الأمريكي وتزايد مقاومة إدارة البيت الأبيض السياسية للحرب. وقد انتهى هذا بدوره إلى جمود مواز في المسار السياسي؛ إذ افتقد المشهد إلى الضُّغوط الميدانيَّة المحِّركة لطاولات المفاوضات، وشجَّع جماعة الحوثي وزاد مِن ممانعتها للسَّلام، ليتكرَّس في النِّهاية وضع خليط مِن حالة “اللَّا سلم واللَّا حرب”:

  • ويفترض باستمرار توتُّر هذه العلاقة إبقاء الأمور على حالها؛ أي أنَّ المشهد اليمني سيبقى في حالة الرُّكود نفسها، ولن يختبر أيَّ تطوُّرات في أيِّ اتِّجاه حال ظلَّت بقيَّة العوامل الأخرى غير ذات الصِّلة بالعلاقة الخليجية الأمريكية على حالها.
  • وإذا ما شهدت هذه العلاقة مزيدًا مِن التَّأزُّم فهناك احتمال أن تزداد حرارة مشهد الصِّراع، وبقدر ما سيشجُّع ذلك الحوثيِّين على التَّصعيد بحكم اعتقاد متأصِّل لديهم مفاده أنَّ السعودية لن تكون قادرة على هزيمتهم بدون الدَّعم الأمريكي، وهو اعتقاد تكرَّس على ضوء انصياع الإمارات وقيامها بوقف تحرُّكات “قوَّات العمالقة”، الموالية لها، في جبهات مأرب وشبوة، وذلك بعد شنِّ الحوثيِّين عددًا مِن الهجمات الصَّاروخيَّة وبالطَّائرات المسيَّرة على أراضيها. 
  • كما قد يدفع الإمارات إلى تحريك المشهد الميداني، لممارسة الضَّغط على جماعة الحوثي لحماية أمنها ومصالحها، فبالنِّسبة للإمارات مِن غير المتوقَّع أن تعود إلى التَّصعيد ضدَّ الحوثيِّين، وستكتفي بلعب أداور غير مباشرة من خلال وكلائها المحليين، دون أن تجرهم إلى مواجهات مع الحوثيين، وهذا سيحشر السعودية في زاوية حرجة إذ ستبقى وحيدة في ساحة المواجهة مع الحوثيِّين، وهي غير قادرة بطبيعة الحال على اقتفاء الخطوة الإماراتية لأسباب معروفة.
  • وفيما يخصُّ الولايات المتحدة فمهما تراجعت أو توتَّرت علاقتها بالسعودية والإمارات فمِن غير الوارد أن تتزايد ضغوطها عليهما لتصل إلى مطالبتهما بوقف الحرب، ورفع اليد عن اليمن، ومِن غير الوارد -في مختلف الأحوال- أن تغادر المشهد تمامًا، وستحتفظ بقدر مِن الحضور والحركة فيه، ومراقبته عن كثب، وذلك باعتبار حساسية المنطقة لها وللأمن والاقتصاد العالميِّين، وباعتبار بقاء وضع التَّوتُّر مع إيران، خصوصًا بعد الهجوم الإيراني على “أربيل” في العراق، وستكون عمومًا بحاجة إلى ممارسة الضُّغوط على إيران وحلفائها الحوثيِّين، خصوصًا إذا ما فشلت مفاوضات “فيينَّا”.  (الحرب في اليمن)
  • ومِن نافلة القول التَّأكيد على أنَّ الانفراج في هذا العلاقة سيصبُّ في تحسين موقف الدَّولتين وحلفائهما في اليمن؛ فتحسُّن كهذا يفترض أن يقترن بإعادة واشنطن النَّظر في حساباتها والتزاماتها تجاه أمن حلفائها، أي بمعالجة الأسباب التي كدَّرت صفو علاقتها بهم، ويفترض أن يعني ذلك تعاونًا أكبر معهما في مواجهة جماعة الحوثي. ويمكن اعتبار تأكيد المتحدِّثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، على بحث المسئولين الأمريكيِّين الذين سبق وتوجُّهوا إلى المنطقة للأزمة اليمنية مع المسئولين الخليجيِّين مؤشِّرًا على أنَّ المسئولين الأمريكيِّين يدركون أنَّ إدخال تعديل على موقفهم مِن هذه الأزمة سيكون جزءًا مِن أيِّ تسوية للعلاقات مع السعودية والإمارات. وعلى ضوء ما وصل إليه المسئولون والمؤسَّسات الحاكمة في واشنطن مِن قناعات حول تعنُّت جماعة الحوثي فمعاودة الدَّعم العسكري للسعودية وحلفائها ستكون مهمَّة أسهل، ولن تواجهه معارضة كبيرة في الدَّاخل الأمريكي.

     

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى