دروب الكرامة ثورة 11فبراير اليمنية الحلو والواقع والمآلات
Getting your Trinity Audio player ready... |
مقدِّمة
تاريخ الثَّوْرات هو تاريخٌ لأهمِّ لَحَظات ولادة الشُّعوب، وتجديد ولادتها وهُوِيَّتها، لكنَّني لست هنا في صددِ، أو في واردِ، كتابة تاريخ الثَّورة والثُّوار، فالتاريخ له أهلُّه والمتخصِّصون فيه، وإنَّما بصدد قراءة تأمليَّة نقديَّة على مشارف عَقدٍ مضى مِن ذلك الحدث العظيم، الذي كنتُ أحد مُعايشيه، ومراقبي لحظات ولادته الأولى، فلستُ مؤرِّخًا هنا، بل مراقب ومشارك منذ اللَّحظة الأولى لتفجُّر الثَّورة وقبلَها وبعدَها، يُنادي ويهتف بالحُريَّة والتَّغيير، ويحلم صباح مساء بذلك الحلم، الذي لم يكتمل بَعد، وربَّما أُجهِض في منتصف الطَّريق، إن لم يكن في لحظة الولادة ذاتها.
ليس الغرض-إذًا-أن أروي تلك الأحداث أو أسرد تاريخها، ولا أدَّعي ذلك، فهذا عملٌ رُبَّما لم يَعُد مطلوبًا اليوم، لأسباب عِدَّة؛ أوَّلها أنَّنا في عصر “جوجل”، وقدرته الخارقة على الاستحضار والتَّذكر، والإجابة عن أيِّ سؤالٍ تاريخيٍّ في زمنه ولحظته وشخوصه، فضلًا عن كون مجال التَّاريخ مجالًا آخر، وإنَّما أنا أبحث هنا محاوِلًا الإجابة عن أسئلة عدَّة حول ذات الثَّورة، ومجتمعها وثُوَّارها ونُخَبها التي أخفقت، وعن سبب هذا الإخفاق الذي ضرب الثَّورة وأصاب الثُّوار. أحاول أن أجيب عن: لماذا أخفقنا؟ وكيف أخفقنا؟ وكيف وصلنا إلى هذه المرحلة؟ وكيف يمكننا أن نحافظ على شيءٍ مِن جذوة الأمل المجهض؟ إن صَحَّ أنَّ ثَمَّةَ أملًا مجهضًا يمكن إبقاؤُه قيد الانتظار والأمل.
وأنا -في كتابي هذا- أحاول أن أسلك المسلك الخلدوني[1]، في القراءة التحليلية الاجتماعية للأحداث ومقدماتها ونتائجها بعيدًا عن الحديث عن الحدث، وتفاصيله التَّاريخية، لأنَّ الهدف مِن الكتاب هو البحث في بنية وبيئة الحدث، وليس الحدث ذاته، فالكتاب قراءة تحليلية اجتماعية سوسيولوجيا للحدث ومآلاته، وليس لسرد الأحداث وتواريخها.
لقد حاولتُ هنا أن أُقَدِّم ما استطعتُ مِن قراءةٍ نقديَّة للثَّورة والثُّوَّار على حدٍّ سواء، متخفِّفًا قدر المستطاع من تقمُّص دور الضَّحيَّة، أو دور الحكيم وادِّعاء الحكمة بأثرٍ رجعيٍّ؛ وإنَّما حَرَصتُ أن أُبقِيَ على ذلك الخطِّ الفكري الذي كنت عليه منذ اللَّحظة الأولى للثَّورة، وهو الخطُّ أو الصَّوت الذي حاولت الحفاظ عليه طوال العشر السَّنوات الماضية، وهو موقفي النَّقدي الدَّائم الذي مارسته منذ البداية، ويَعرِفه مَن يتابع موقفي منذ البداية، وقد دَوَّنته في كلِّ ما كتبتُه ونشرتُه مِن مقالات وأبحاث ودراسات أو قلتُه وصَرَّحتُ به، على امتداد عَقدٍ مِن الزَّمان، تجدونه مبثوثًا ومحفوظًا في “الإنترنت”، الذَّاكرة الإلكترونيَّة للبشريَّة اليوم، والتي أضحت بمثابة رقيبٍ صارمٍ علينا وعلى مواقفنا.
لا شكَّ أنَّ دوافعي لمثل هذا العمل كثيرةٌ جدًّا؛ فعقدٌ مِن الثَّورة اليمنيَّة ومآلاتها التي انتهت إليها لم نجد مَن يتصدَّر لقراءتها قراءة نقديَّة، على غرار عشرات الدِّراسات البحثيَّة والنَّقديَّة التي كُتِبَت عن غيرها مِن ثورات الرَّبيع العربي، في تونس ومصر وسوريا وليبيا أيضًا، كـ(عطب الذَّات) لبرهان غليون، عن الثَّورة السُّورية، و(درب الآلام نحو الحرية) لعزمي بشارة، عن ذات الثَّورة السُّورية، و(ثورة مصر مِن جمهورية يوليو حتَّى الانقلاب)، لعزمي بشارة أيضًا، وعدد مِن الكتب الجماعية الصَّادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السِّياسات، عن كلِّ هذه الثَّورات، ومِنها كتاب عن الثَّورة اليمنية، صادر عن ذات المركز، لمجموعة مِن الباحثين اليمنيين، لكنه كان يتناول لحظة الثَّورة واعتمالاتها، وصدر في نفس لحظة قيام الثَّورة، ولم يتبيَّن بعد مصيرها كما هو الحال الآن. فيما لا نجد دراسة واحدة حول ثورة ١١ فبراير اليمنية، بعد مآلها الرَّاهن، سوى دراسة نادرة كالدِّراسة المقتضبة للدُّكتور محمَّد الظَّاهري، الصَّادرة عن المؤسَّسة العربية للدِّراسات الإستراتيجية، بإسطنبول، وهي الدِّراسة الوحيدة التَّقويميَّة لثورة ١١ فبراير، وتأتي أهميَّتها مِن كون الكاتب أحد قادة الثَّورة، فضلًا عن كونه باحثًا أكاديميًّا ضليعًا؛ لكنَّها جاءت مقتضبة جدًّا، وكان المأمول أن تأتي بصورة أوسع بكثير ممَّا هي عليه، بقدر مكانة الدُّكتور الظَّاهري الثَّوريَّة والأكاديميَّة.
لهذا كلِّه، كان اندفاعي لكتابة هذا العمل، الذي أتمنَّى أن ينال هو الآخر مزيدًا مِن الإثراء والنِّقاش والتَّعقيب، حتَّى تكتمل الفائدة مِنه، فأيُّ عملٍ لا ينال حظَّه مِن النِّقاش والقراءة لا يُضيف شيئًا في مجاله، بل يصبح فائضًا بغير معنى، وهذا ما لا أرجوه لهذا العمل المتواضع، بل أرجو أن يُحرِّك شيئًا مِن الجمود الرَّاهن في قراءته لبعض القضايا، التي تطرَّقتُ إليها، خاصَّة أنَّها قضايا مَحَلُّ جدل، لكنَّها لم تَنَل حقَّها مِن النِّقاش المنهجي والموضوعيِّ بَعد.
لقد حاولت أن أقارب مسألة الأسباب الموِّلدة للثَّورة، وهي أسباب عدَّة بلا شكَّ، لكنها بَقِيَت محلَّ جدلٍ ونقاشٍ لا ينتهي، بيد أنِّي أردتُ مِن خلال هذا المدخل أن ءُأَسِّسَ لمقاربة شاملة للمشهد اليمني، وفي القلب مِنه حَدَثُ فبراير تحديدًا، وكذا مقاربة كلِّ القضايا المتصلة به، مِن القبيلة والسِّلاح والمذهب والجيش والأحزاب والشَّباب والنُّخَب والجوار الإقليمي، وأثر جميع ذلك في مقدِّمات الثَّورة ونتائجها، ومآلات كُلِّ ذلك على اليمن ككلٍّ، حاضرًا ومستقبلًا.
فالهدف مِن كلِّ هذا العمل هو محاولة تحريك المياه الرَّاكدة، وتجاوز المقولات الجامدة في رؤيتها لطبيعة المجتمع اليمني، ومحاولة قراءة مجتمع متحرِّك ديناميكيًّا، لكنَّه ليس محكوما معرفيًّا بأنماط وقوالب جاهزة ومسبقةٍ للتَّفكير والتَّوصيف والاستنتاج؛ ممَّا أعاق -بشكل كبير- رؤية الحقائق كما هي عليه، لا كما يريد لنا بعض الأيديولوجيين أن نراها، وهم الذين حاولوا تفسير المجتمع والثَّورة مِن خلال مقولاتهم الخاصَّة، لا مِن خلال واقع المجتمع، وتحوُّلاته واعتمالاته.
لقد حرصتُ قدر المستطاع أن أكون دقيقًا في مقارباتي، منطلِقًا مِن منهجية مقارنة النَّتائج بالمقدِّمات، عدا عن قناعتي، ووجهة نظري الخاصَّة، التي كوَّنتها بالقراءة والـتَّأمُّل، وهي التي شَكَّلتُها خلال عَقدَينِ مِن العمل والاشتغال العامِّ، صِحافة وسياسة وبحثًا ونشاطًا، محاوِلًا على الأقلِّ أن أُثِير نقاشًا وألفِتَ النَّظر قليلًا إلى أهميَّة إعادة قراءة الأحداث بعيون أبنائها، لا بعيون الموتى، أو بعيون أجنبية مِن باحثين ومراقبين؛ فغالبًا ما تَغِيبُ عن بعض الباحثين الأجانب زوايا نظر وخفايا أحداث يمكن أن تُبنى عليها رؤيا متناسقة ومتكاملة، وذلك لأسباب عدَّة لا مجال لذكرِها هنا، وإن كان في مقدِّمتها السِّياقُ والنَّسقُ المعرفيُّ والثَّقافيُّ للباحث نفسه.
ولهذا، ركَّزتُ بشكل كبير على حضور قراءاتي النَّقديَّة واستخلاصاتي البحثية الخاصَّة في هذه الدِّراسة، مُقلِّلًا مِن مناقشة الرُّؤى الأخرى، إلَّا للضَّرورة التي يقتضيها الحال والمقال، لأسباب عدَّة، في مقدِّمتها ما أردتُه مِن تخصيص هذه القراءة بثورة فبراير واعتمالاتها، ومدى المسئوليَّة التي نتحمَّلها كباحثين وكثُوَّار ومشاركين فيها، بالقدر الذي ينبغي علينا أن نُقدِّم فيه مراجعة أخلاقيَّةً بالاعتراف بالفشل، قبل الحديث عن أيِّ مراجعة عِلميَّة نقديَّة تاليًا.
فالمراجعة الأخلاقيَّة تعبير حقيقيٌّ عن مدى اعترافنا بقصورنا وفشلنا غير المتعمَّد، وهي مقدِّمة ضروريَّة لأيِّ مراجعة عِلميَّة نقديَّة نحاول مِن خلالها تَتَبُّعَ مكامن الفشل، وأسباب الإخفاق الذي أصاب الثَّورة في مَقتَلٍ، إبَّان موجتها الأولى، وأودى بها في مهاوي المشاريع غير الوطنيَّة، طائفيَّة كانت أو مناطقيَّة جهويَّة، تلك المشاريع التي انتعشت في ظِلِّ تراجع المشروع الوطني الكبير، الذي اعتراه الكثير مِن الذُّبول جرَّاء فشل وإخفاق ثُوَّار ١١ فبراير، الذين كانوا على وشك الانطلاق باليمن نحو آفاق وطنيَّة رحبة، وعلى موعد مع انتقال سياسيٍ ديمقراطيٍّ دُستوريٍّ كبير، مِن خلال رؤية وتصوُّرات و”مخرجات الحوار الوطني”، رغم بعض المآخذ على طبيعة ومواضيع ذلك الحوار.
ختامًا، أرجو أن أكون مِن خلال هذا العمل قد قاربتُ كثيرًا في تقديم قراءة نقديَّة عِلميَّة وأخلاقيَّة في آنٍ، للوقوف على مواطن الإخفاق وأسبابه، ومُمكنات المراجعة والتَّقويم، وإخلاء مسئوليَّتنا تجاه الأجيال القادمة التي مِن حَقِّها أن تَعرِف جيِّدًا، مسئوليَّة الجميع في مآلات ثورة فبراير، ومصير اليمن -ككلِّ- على ضوء تلك الثَّورة التي أُربِكَت نتيجةَ أخطاء كبيرة، بقصد أو بدون قصد؛ فمِن حقِّ هذه الأجيال أن تَعرِف مجرَّد المعرفة، التي مِن خلالها يُمكِنها استئناف العمل والسَّير مجدَّدًا نحو الفعل الثَّوري المبصر، وفقًا لـمُمكنات الزَّمان والمكان.
ولا أدَّعي هنا أنَّني قد قاربتُ وأحطتُ بكلِّ جوانب الثَّورة، وأسباب فشلها، أو مُمكنات نجاحها، بقدرِ ما هي محاولةٌ للنِّقاش ودعوةٌ للإثراء والتَّعقيب لكلِّ المهتمِّين مِن باحثين وساسة ومثقَّفين، ودعوة للشَّباب اليمني الصَّاعد الذي يخوض الآن غمار هذه اللَّحظة بكلِّ تعقيداتها، ويواجه تحدِّياتٍ كبيرة على كلِّ المستويات، ممَّا يُحتِّم عليهم أن يكونوا على اطِّلاع تامٍّ، وعلم بكلِّ ما يجري ويدور في اليمن اليوم، معرفيًّا وفكريًّا وسياسيًّا؛ لأنَّهم المعنيُّ الأوَّل بهذا العمل المتواضع، كما هم المعنِيُّون الرَّئيسِون بحاضر اليمن ومستقبله.
[1] ربما لا يعرف الكثيرون أنَّ مقدِّمة ابن خلدون الشَّهيرة، والتي أطبقت شهرتها الآفاق، كانت مجرَّد مُقدِّمة لكتاب تاريخيٍّ كبير، لا يكاد أحد يحفظ اسمه، فضلًا عن أن يَعرِف عنه شيئًا، وهو كتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيَّام العرب والعجم والبربر ومَن عاصرهم مِن ذوي السُّلطان الأكبر)، والذي يُعدُّ موسوعة تاريخيَّة في بابه؛ لكنَّ جمهور النَّاس لم يَقِفوا على شيء مِنه، سوى مقدِّمته الشَّهيرة التي عَرَفُوا مِن خلالها أبا زيد عبدالرحمن بن محمَّد بن خلدون الحضرمي (١٣٣٢م- ١٤٠٧م). هذه المقدمة التي يُنظر لها اليوم على أنَّها أسَّست لعلم الاجتماع المعاصر.