ضمن اهتمامات مركز المخا للدِّراسات الإستراتيجيَّة (إسطنبول) بالسِّلام كمبدأ وقيمة يتطلَّبها المجتمع والواقع اليمني، أقام المركز ندوة ثقافيَّة، بعنوان (رواندا.. الانتقال الملهم)، على مدى يومين (15- 16) فبراير 2022م، في قاعة فندق دبل تري باي هلتون، في منطقة آفجلر بمدينة إسطنبول، بجمهوريَّة تركيا.
شارك في إلقاء النَّدوة كلٌّ مِن:
- السَّفير الرَّواندي السَّابق لكلٍّ مِن مصر والمغرب، السَّيِّد أبيماها صالح.
والسَّيِّد عبدالكريم أباريزا، رجل الأعمال والخبير الاقتصادي.
والدكتورة سناء عوض، سفيرة السُّودان سابقًا، وهي خبيرة بالشَّأن الرُّواندي.
كما ساهم في تقديم النَّدوة الدُّكتور عبدالله التميمي، أستاذ الإعلام والاتصال، وذلك بعرض موجز حول المشهد الرُّواندي، والتَّحوُّلات الَّتي شهدها خلال فترة العقدين الماضيِّين، بقيادة الرَّئيس الحالي "بول كاغابي"، انتهاء بالنَّهضة العمرانيَّة والتَّنمية الاقتصاديَّة.
وساهم في تقديم النَّدوة أيضًا الأستاذ فؤاد الحميري، نائب وزير الإعلام اليمني، بتعليقاته ومداخلاته المختصَّة بأطروحات المحاضرين في النَّدوة مِن ضيوف المركز.
وقد حظيت النَّدوة بحضور شخصيَّات أكاديميَّة وسياسيَّة وحقوقيَّة وإعلاميَّة، مِن اليمن والمنطقة العربيَّة عموما؛ واتَّسمت بالنِّقاش والحوار والمداخلات المتنوعة مِن الحضور، حيث نالت التَّجربة الرُّوانديَّة اهتمامهم نظرًا لما تعانيه دول المنطقة مِن احتراب وصراعات داخليَّة.
وأشاد الحاضرون جميعًا بالتَّجربة الرُّوانديَّة وأكَّدوا على ضرورة استخلاص العبر والدُّروس مِنها، والإفادة مِن هذه الخبرة النَّاجحة والماثلة للعيان، لما تمثِّله مِن نموذج للعبور مِن حالة القتال والاحتراب إلى حالة النَّهضة والتَّنمية والصَّدارة.
رواندا.. مِن كارثة الإبادة إلى النُّهوض المتسارع
د. نجيبش غانم
رواندا.. بداية الحكاية:
تقع رواندا في الوادي المتصدِّع الكبير، أو ما يُعرف بالأخدود الأفريقي العظيم؛ حيث تلتقي منطقة البحيرات الكبرى الأفريقيَّة وشرق أفريقيا، على بعد درجات قليلة جنوب خطِّ الاستواء.
وتحدُّ جمهوريَّة رواندا مِن الشَّمال أوغندا، ومِن الشَّرق تنزانيا، ومِن الجنوب بوروندي، ومِن الغرب جمهوريَّة الكونغو الدِّيمقراطيَّة؛ وعاصمتها مدينة (كيجالي)، حيث يعيش حوالي (1.3) مليون شخص بها. وبسبب طبيعتها الجغرافيَّة الوعرة يطلق على رواندا "دولة التِّلال الألف"، كما عُرفت لفترة بـ"سويسرا أفريقيا". كما أنَّ مناخها معتدل إلى شبه استوائي، وهو ما يجعلها بيئة ملائمة للعيش والاستجمام طيلة أيَّام العام.
ويبلغ عدد سكَّان رواندا (12) مليون نسمة. تمثِّل عرقيَّة الهوتو الغالبيَّة العظمى، إذ تتجاوز (80%)، يليها عرقيَّة التُّوتسي بنسبة تبلغ (15%)، في حين تتوزَّع بقيَّة السُّكَّان عرقيَّات أخرى. وتبلغ مساحة جمهوريَّة رواندا (26) ألف كم مربَّع، تقريبًا. وبذلك فهي تعدُّ أكثر دول أفريقيا كثافة سكانيَّة، حيث تبلغ الكثافة السُّكَّانيَّة فيها (440) شخصًا لكلِّ كم مربَّع.
يتحدَّث معظم الرُّوانديِّين لغة "كينيارواندا"، وتجمعهم ثقافة قوميَّة واحدة، وإن اختلفت أدوارهم الوظيفيَّة بحسب مناطق سكنهم. وقد اعتنق الكثير مِن السُّكَّان الدِّيانة النَّصرانيَّة، المذهب الكاثولوكي خصوصًا، نتيجة الاستعمار الألماني.
اندمج السُّكَّان الأوائل في عشائر متعايشة، ثمَّ ظهرت الممالك الحاكمة. وقد هيمنت مملكة رواندا منذ منتصف القرن الثَّامن عشر الميلادي، حيث غزا التُّوتسي مناطق الآخرين عسكريًّا، واستولوا عليها، وفرضوا سلطتهم في صيغة نظام ملكي، ثمَّ سنُّوا لاحقًا سياسات مناهضة للهوتو.
استعمرت ألمانيا رواندا في عام 1884م، وجعلتها جزءًا مِن شرق أفريقيا الألمانيَّة؛ ثمَّ تلتها بلجيكا، والَّتي غزت البلاد في عام 1916م، خلال الحرب العالميَّة الأولى. وقد حكمت كلتا الدَّولتين الأوربِّيَّتين مِن خلال الملوك، وأرستا سياسة مؤيِّدة للتُّوتسي. وفي عام 1959م بدأ الهوتو بالثَّورة ضدَّ التُّوتسي والنِّظام الملكي لهم، وأسَّسوا في نهاية المطاف جمهوريَّة مستقلَّة كانوا هم المهيمنين عليها في عام 1962م. في عام 1973م، شهدت البلاد انقلابًا عسكريًّا وتغييرًا في القيادة، لكنَّ سياسة التَّأييد للهوتو ظلَّت قائمة.
الجذور التَّاريخيَّة والدَّور الاستعماري للصِّراع العرقي:
في عام 1894م، وصل المستكشف الألماني، جوستاف أدولف، إلى رواندا، حيث بدأ بالتَّعامل مع ملوك رواندا في تلك الحقبة التَّاريخيَّة. وللتَّو بدأ أدولف التَّمييز بين أبناء الشَّعب الرُّواندي، بحسب البيئة والعرق. ومِن هنا بدأ الاستعمار الأوربِّي التَّفريق بين سكَّان رواندا؛ فقد جاء المستعمرون البلجيكيُّون (1922م- 1959م)، ليبنوا على هذا التَّوجُّه سياستهم في رواندا، فأصدروا بطاقات هويَّات خاصَّة بالسُّكَّان المحلِّيِّين ترسِّخ التَّفريق مِن خلال تصنيف المواطنين بحسب أعراقهم. واتَّجه البلجيكيُّون في ترسيخ سياسة التَّمييز بين السُّكَّان مِن خلال نوع العمل الَّذي يقومون به، حيث أنَّ الهوتو في الأصل مزارعون بينما التُّوتسي رعاة للمواشي والأبقار.
عامل مستعمرو راوندا البلجيكيُّون التُّوتسيِّين كجماعة مميَّزة حاكمة؛ واتَّبع سياسة التَّفرقة الإثنيَّة بين مكوِّنات الشَّعب الرَّواندي، مِن خلال منح هويَّات خاصَّة لكلِّ فئة. واستمرَّ الاهتمام البلجيكي يقدِّم للتُّوتسي كافة الامتيازات على حساب الهوتو، بحيث أفضى الأمر إلى جعل التُّوتسي -الأقليَّة- ممسكة بحكم البلاد ومقاليد السُّلطة. ومِن هنا بدأت حالة العداء والمنافسة السِّياسيَّة بين القبائل؛ فردًّا على المزايا الممنوحة للتُّوتسيِّين أصدرت جماعة الهوتو بيانًا، مِن 10 صفحات عام 1957م، تعترض فيه على التَّمييز الإثني بحقِّهم. وتدريجيًّا ترسَّخ في وعي وفكر الهوتو، وعقيدتهم القتاليَّة ضدَّ الاستعمار، أنَّ النِّضال ضدَّ المستعمر يعني القتال ضدَّ التُّوتسي. فقام المستعمر بالاعتماد على التُّوتسي، وتمكينهم، وبهذا أصبح التُّوتسي طبقة غنيَّة، فيما أصبح الهوتو شريحة فقيرة.
هذا التَّفريق استندت عليه المواقف القبليَّة المتشدِّدة، والَّتي أفضت إلى الحروب والمجازر الدَّمويَّة الَّتي شهدتها رواندا عام 1994م.
التَّحوُّلات والتَّقلُّبات السِّياسيَّة ودورها في إذكاء الصِّراع:
في عام 1959م، وبتحريض مِن البلجيكيِّين والفرنسيِّين، قامت ثورة عارمة لاستبدال النِّظام الملكي (المحسوب على التُّوتسي)، لاستبداله بنظام جمهوري (بقيادة الهوتو)، وانتهت الثَّورة بإسقاط الملكيَّة وقيام الجمهوريَّة في عام 1962م.
بعد إطاحة الهوتو بحكم الملك التُّوتسي اندلعت أحداث عنف بين الجماعتين، خلال الفترة (1963م- 1967م)، وتعرَّض التُّوتسي لمجازر كبيرة، راح ضحيَّتها نحو 20 ألف شخص، فضلًا عن هروب أكثر مِن 300 ألف توتسي، مِن ديارهم إلى خارج البلاد، سواء إلى دول أفريقيَّة أو دول أوربِّيَّة. وكان مِن أبرز الملاذات الآمنة لهم أفريقيًّا أوغندا.
تشكَّلت في الخارج "الجبهة الوطنيَّة الرُّوانديَّة"، مِن اللَّاجئين التُّوتسيِّين، وبدأت تنخرط في كفاح مسلَّح ضدَّ القوَّات الحكوميَّة الَّتي بدأت تهاجم الجبهة منذ عام 1990م، لتبدأ دورة مِن الصِّراع بين الطَّرفين؛ والَّتي استمرَّت حتَّى عام 1994م، وارتكبت فيها أبشع الجرائم. ورافقت تلك الفترة هجرات الرُّوانديِّين الى دول أوربِّيَّة وغربيَّة مختلفة.
المجزرة الأبشع.. مليون قتيل خلال مائة يوم:
بدأت المجزرة الأشهر في رواندا، في 6 أبريل 1994م، واستمرَّت مائة يوم، وراح ضحيَّتها قرابة مليون ومائتي ألف نسمة، معظمهم مِن التُّوتسي وقليل مِن الهوتو. وقد جاءت أحداث المجزرة عقب سقوط طائرة الرَّئيس الرُّواندي آنذاك، "جوفينال هابياريمانا"، والَّذي ينتمي للهوتو، بساعات قليلة. حيث أصيبت طائرته بصاروخ حال هبوطها في مطار العاصمة الرُّوانديَّة (كيجالي).
صدرت التَّوجيهات الحكوميَّة بعد حادث الاغتيال للمواطنين بعدم الخروج مِن البيوت، في حين كانت مليشيَّات مِن قبائل الهوتو، مدعومة مِن طرف الحكومة، قد تسلَّحت بالسُّيوف والسَّواطير والبنادق الآليَّة، وجرى تزويدها بأسماء وعناوين السُّكَّان مِن قبائل التُّوتسي في الأحياء السَّكنيَّة في العاصمة وبقيَّة المدن والقرى الرُّوانديَّة. وعند الخامسة صباحًا في اليوم التَّالي لمقتل الرَّئيس، أي في السَّابع مِن أبريل 1994م، بدأت عمليَّات القتل.
قُتِل في تلك المجزرة الأطفال والنِّساء والشُّيوخ؛ واستمرَّت المذابح الَّتي يندى لها جبين الإنسانيَّة لمدَّة مائة يوم متواصلة. وظلَّت وسائل الإعلام العالميَّة تبثُّ مشاهد بشعة، ومرعبة، مِن عمليَّات الإبادة الجماعيَّة. وجرى القتل في المدارس، والكنائس، والأسواق، والطُّرقات العامَّة، حتَّى امتلأت الأحياء بالجثث. وكانت الإذاعات الرُّوانديَّة المحلِّيَّة تبثُّ أسماء القتلى يوميًّا. ويعدُّ متحف ضحايا تلك المجازر في العاصمة كيجالي شاهدًا على تلك المجازر الأكثر بشاعة.
المسلمون.. وواحة الأمان:
كان الحضارم اليمنيُّون والعمانيُّون هم مَن أدخلوا الإسلام إلى رواندا، لهذا فهم يحظون باحترام خاصٍّ لدى سكَّان رواندا، وخاصَّة المسلمين مِنهم.
نظرًا لعدم انخراط المسلمين الرُّوانديِّين، مِن قبيلتي التُّوتسي والهوتو، في عمليَّات القتل، ظلَّت مساجد ومساكن وأحياء المسلمين ملاذا آمنًا لكلِّ طالب نجاة، وبالذَّات أفراد قبيلة التُّوتسي. لقد حفظ المسلمون أيديهم مِن أن تشارك في عمليَّات القتل والإبادة على أسس عرقيَّة، وظلُّوا محافظين على حيادهم تجاه هذا الصِّراع الدَّامي.
في المقابل، لعبت وسائل الإعلام، وخاصَّة إذاعة "RTLM" الهوتيَّة دورًا كبيرًا في نشر الكراهية، وتأجيج عمليَّات الإبادة، مِن خلال التَّحريض على التُّوتسيِّين، ودعوتها للتَّخلُّص مِنهم وقتلهم. كما ساهمت الدَّولة الفرنسيَّة في توجيه أعمال الإبادة، وقدَّمت جميع أشكال الدَّعم العسكري والسِّياسي لأولئك الَّذين ارتكبوا جرائم الإبادة الجماعيَّة في رواندا، مِن خلال إرسال المرتزقة والأسلحة لمساندة الهوتو، بغطاء دبلوماسي وإعلامي.
وهكذا ترسَّخت الفروقات وتجذَّر الصِّراع بين الهوتو والتُّوتسي بفعل التَّدخُّل الأجنبي؛ وتطوَّر إلى أن تحوَّل إلى عقيدة وخطاب عنصري يحمل الكراهية والعداء بين السُّكَّان الرَّوانديِّين فيما بينهم، ثمَّ فعلًا قتاليًّا وتصفية عرقيَّة.
رئيس رواندا ونضال فرض السَّلام:
وُلد بول كاغامي، في 23 أكتوبر 1957م، بقرية نائية في وسط رواندا، لأسرةٍ مِن التُّوتسي تنتمي إلى سلالة مِن السَّلاطين تعاقبت على عرش هذه العرقيَّة في فترات ما قبل الاستعمار. وكانت تلك الأسرة قد فرَّت مِن القمع الَّذي استهدف التُّوتسيِّين قُبيل نيل البلاد استقلالها عام 1959م، حيث جرت إعدامات وتصفيات، ودُمرت منازل ومباني، بذريعة وجود مخطَّط للتُّوتسي يهدف إلى الإمساك بالسُّلطة.
نزح كاغامي مع أسرته، وهو في الثَّانية مِن عمره إلى أوغندا. وعندما بلغ الثَّانية والعشرين مِن عمره كان ضمن عدد مِن الشُّبَّان التُّوتسي الَّذين شكَّلوا نواة جيش "موسيفيني" في أوغندا، والَّذي كافأهم بتجنيسهم وتعيينهم في مناصب مهمَّة بالأجهزة العسكريَّة والأمنيَّة، بعد نجاحه في الإمساك بسدَّة الحكم، إثر إطاحته بنظامي "ملتون آبوت"، ثمَّ "تيتو أوكيلو" عام 1986م.
فور إعلان "موسيفيني" رئيسًا لأوغندا، تمَّ تعيين كاغامي رئيسًا للاستخبارات العسكريَّة الأوغنديَّة. وهو منصبٌ خوَّله نفوذًا واسعًا سخَّره في خدمة قضيَّته الأولى، وهي عودة التُّوتسي إلى رواندا وحكمها. أسس كاغامي "الجبهة الوطنيَّة الرُّوانديَّة" مِن جنود مِن قبيلة التُّوتسي، قوامها حوالي نصف مليون جندي، وتولَّى رئاستها "فريد رويجيما"، وهو صديق مخلص لكاغامي. ونتيجة مقتل رويجيما، في معارك مع الجيش الرُّواندي، في الثَّاني مِن أكتوبر 1990م، خلفه في رئاسة الجبهة كاغامي، بدعم مِن الرَّئيس الأوغندي "موسيفيني".
سرَّعت المجازر الَّتي حدثت مطلع التِّسعينيَّات مِن القرن الماضي بهجوم "الجبهة الوطنيَّة الرَّوانديَّة" واجتياحها للبلدات والمدن، حتَّى تمكَّنت مِن الوصول إلى "كيجالي"، في يونيو 1994م، وهنا توقَّفت المجازر واستقرَّ الأمر لـ"الجبهة الوطنيَّة الرُّوانديَّة". وأسند كاغامي رئاسة البلاد إلى "باستير بيزيمنغو"، والَّذي ظلَّ في الحكم حتَّى عام 2000م حيث أزاحه كاغامي وأحاله إلى المحاكمة بتهمة الفساد ومخالفة توجُّه المصالحة الوطنيَّة القاضي بنبذ أيديولوجيا التَّفرقة العرقيَّة. ولاحقًا، تولَّى كاغامي رئاسة البلاد بتزكية مِن البرلمان الرُّواندي، وكانت المهمَّة الأولى الَّتي تنتظره سنَّ دستورٍ جديد للبلاد، قادر على مسايرة المرحلة الجديدة، وتجاوز شبح المجازر.
أقِرَّ الدُّستور الجديد عام 2003م، ونصَّ على إلغاء التَّفرقة العرقيَّة والتَّمييز العنصري. وبالتَّزامن مع ذلك أُعيد انتخاب كاغامي بالاقتراع العام المباشر، ومِن ثمَّ شكَّل حكومة حظيت فيها النِّساء بنصيب وافر. ثمَّ أعيد انتخابه بعد ذلك في عام 2010م، ثمَّ حقَّق في 4 أغسطس 2017م فوزًا كاسحًا في انتخابات الرِّئاسة، وحصل على ولاية رئاسيَّة ثالثة تمتدُّ سبع سنوات أخرى، وذلك بعد أن جرى تعديل الدُّستور في ديسمبر 2015م، بما يسمح له بالاستمرار في السُّلطة حتَّى عام 2024م.
خطَّة التَّغيير والسَّلام:
رفع بول كاغامي شعار "يد تبني، ويد تمسح الدُّموع"، واعتمد شعار "ننتصر على الانتقام بغير الانتقام"، وكذلك "القبيلة للفرد والوطن للجميع". كما سنَّ القوانين الَّتي تؤسِّس لمبدأ العدالة الانتقاليَّة، وتصفية الجرائم عبر إعادة العمل بالمحاكم الشَّعبيَّة القرويَّة التَّقليديَّة الَّتي تعمل وفق نظام "غاكاكا" (وتعني العشب الأخضر، نسبة إلى العشب الَّذي كان يجلس عليه حكماء القرى لتسوية الخلافات بين الأفراد). تشكَّلت المحاكم القرويَّة مِن إحدى عشر ألف مجلس قضائي في كلِّ رواندا، وأصدرت أحكامًا قضائيَّة بحقِّ عشرات الآلاف ممَّن أدينوا بجرائم ضدَّ الإنسانيَّة.
ولأنَّ الكثير مِن الأسر مرَّت بتجارب مريرة ومؤلمة، حيث كان القتلة مِن الجيران أو مِن الأهل الَّذين ينتمون نسبًا للقبيلة الأخرى، اعتمدت الحكومة العدالة الانتقاليَّة وجهود المصالحة لتصفية الخصومات، وذلك مِن خلال اعتراف القتلة بالقتل، والاعتذار لأولياء القتلى، وتطبيق عقوبات عليهم تنتهي بخروجهم بعدها مِن السِّجن. أمَّا الَّذين خطَّطوا وأشرفوا على جرائم الإبادة الجماعيَّة فقد أحيلوا للسُّلطات القضائيَّة الرَّوانديَّة. وكان كاغامي صارمًا في تطبيق القوانين إلى الحدِّ الَّذي أعدم فيه خمسة مِن ضبَّاطه في "الجبهة الوطنيَّة الرُّوانديَّة" الَّذين قاموا بعمليَّات انتقام عشيَّة دخولهم للعاصمة كيجالي.
وإيمانًا بالدَّور الخارجي في خلق حالة الصِّراع، قامت الحكومة الرُّوانديَّة بإغلاق السَّفارة الفرنسيَّة، لدورها في الصِّراع السَّابق، ومنعت التَّحدُّث أو التَّعامل باللُّغة الفرنسيَّة، واعتمدت اللُّغة الإنجليزيَّة لغة رسميَّة للتَّحدُّث والمعاملات الرَّسميَّة.
وفي سبيل تعزيز سلوك العمل والإنتاج، أنشأت حكومة روندا مباني سكنيَّة في المناطق السَّهليَّة والوديان، وقامت بتسكين أهالي المناطق الجبليَّة بها؛ وخلال سنتين أصبح سكَّان الجبال منتجين بعد أن قامت الحكومة بتوزيع البذور للزِّراعة، ووسائل المكننة الزِّراعيَّة. وزوَّدت آخرين بأصناف مِن الدَّجاج اللَّاحم والبيَّاض والمواشي كي يقوموا بتربيتها ورعيها للإفادة مِن منتجاتها.
كما قامت بإعداد تطبيق، للمزارعين ورعاة الماشية، على أجهزة الهواتف المحمولة، يوضِّح لهم كيف بإمكانهم الحصول على المدخلات الزِّراعيَّة أو الأعلاف، وأين يمكن توزيعها، وبطرق ميسَّرة، وأساليب مشجِّعة، وكيف يمكنهم تسويق منتجاتهم سواء الزِّراعيَّة أو منتجات الحليب واللُّحوم والبيض.
نتيجة هذه السِّياسات ارتفعت مستويات الدَّخل لتلك الأسر المنتجة، وبالتَّالي ارتفعت معدَّلات الإنتاج القومي.
إلهام التَّغيير في عالم الحروب:
لقد كان ديدن التَّحوُّل والتَّغيير في رواندا هو الإنسان، فمِنه بدأ تدمير المجتمع برواندا، ومِنه بدأت العودة للأمان والتَّنمية.
وفي حين هاجر كثير مِن التُّوتسيِّين الرُّوانديِّين إلى دول ناطقة بالفرنسيَّة، مثل فرنسا وبلجيكا وإقليم كيبيك بكندا، هاجر بعضهم إلى الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.
كان المهاجرون الرُّوانديُّون حيثما حلَّوا واستقرُّوا يسارعون للتَّعليم ولإتقان لغة البلاد المضيفة، ويعملون على تطوير أنفسهم مهاريًّا، واكتساب الكثير مِن القدرات؛ كما أجادوا الدُّخول في مجال المال والأعمال، حتَّى أضحى الكثير مِنهم مِن أصحاب رؤوس الأموال وخبراء في الاقتصاد، وصار كثير مِنهم مِن ذوي الكفاءات والمهارات مِن حملة الشَّهادات التَّخصُّصيَّة العليا والمرموقة في مختلف مجالات التَّنمية المستدامة. وعندما عاد الكثير مِنهم إلى رواندا، بعد استقرار الأوضاع فيها، وهم يمتلكون مستوى عالٍ مِن الخبرات والمهارات، ساهموا في إحداث نقلة نوعيَّة للبلاد، وارتفاع معدَّلات التَّنمية.
وتعدُّ رواندا اليوم مِن أكثر البلدان الأفريقيَّة أمانًا وسلامًا وهدوءًا، وهي اليوم مِن أكثر البلدان الأفريقيَّة تنمية وتطوُّرًا، وثالث دولة في الخضرة وحماية البيئة في العالم، ومِن أنظف الدُّول حضريًّا. وتشهد رواندا تصاعدًا متسارعًا في التَّنمية الإنسانيَّة.
وقد حاربت الحكومة الرَّوانديَّة ظاهرة الفساد الإداري والوظيفي والمالي؛ ومصير مَن يقترف جريمة فساد -صغرت أم كبرت- السِّجن والطَّرد مِن الوظيفة.
ويعدُّ نظام جمع وتحصيل الضَّرائب في رواندا مِن أفضل الأنظمة على مستوى أفريقيا، مِن حيث الدِّقة والعدالة؛ في مقابل توفير وتسهيل الخدمات والبنى التَّحتيَّة، وترسيخ القانون وفرض العدالة. وتوسَّعت جهود الحكومة في جوانب التَّعليم والتَّدريب والتَّأهيل لتوفير القدرات والمهارات والكوادر العمليَّة.
وفي جانب الاستثمار عملت الحكومة على جلب الاستثمار الأجنبي، وتشجيعه، وتأمينه، وتوفير الأجواء الملائمة لاستقطابه.
الخلاصة:
تعدُّ رواندا تجربة إنسانيَّة ثريَّة وغنيَّة، ويمكن استخلاص الدُّروس والعبر مِنها للإفادة مِنها بما يتناسب مع الأزمات الَّتي تعاني مِنها الشُّعوب المفكَّكة والمتناحرة على أسس عرقيَّة أو عنصريَّة أو طائفيَّة.
والمطلوب يمنيًّا أن تتوفَّر إرادة وطنيَّة وكتلة حرجة، مِن أبناء اليمن المخلصين، تمتلك الكفاءة والخبرة والقوَّة الكافية، بما يمكِّنها مِن الإمساك بزمام المبادرة، ونزع السِّلاح والقضاء على المليشيَّات المقوِّضة لسلطة الدَّولة والمنازعة لسيادتها، وفرض السَّلام وسيادة القانون والعدالة الانتقاليَّة، وجبر الضَّرر لكلِّ ضحايا الحرب والصِّراع.
قصص نجاح ملهمة مِن التَّجربة الرُّوانديَّة
د. عبدالله التميمي
رواندا ليست الدَّولة الأولى، ولن تكون الأخيرة، مِن الدُّول الَّتي عانت مرارة الحرب الأهليَّة، والنِّزاع المسلَّح، والإبادات الجماعيَّة؛ خاصَّة في ظلِّ النِّزاع على السُّلطة والثَّروة بين شركاء الوطن الواحد، أو نتيجة التَّعصُّبات الطائفيَّة والعرقيَّة، كما حدث في لبنان وغيرها مِن الدُّول. غير أنَّ رواندا لم تلبث أن نفضت غبار الحرب، ونهضت مِن تحت ركامها، واستلهمت طريق الكبار، لتحقِّق أعظم قصص النَّجاح الَّتي تروى. ودورنا هنا الوقوف على هذه التَّجربة، واستلهام الدُّروس والعبر مِنها في طريق تحقيق المعجزات، وتجاوز الكارثة.
قصَّة النَّهضة في مجال التعليم:
يمثِّل التَّعليم هو الركيزة الأولى في أيِّ مجتمع لصناعة الهويَّة الجامعة، والقيم والمبادئ المشتركة، والأخلاق والسُّلوكيَّات الإيجابيَّة تجاه الآخرين. فالأجيال التي تمرُّ بمقاعد الدِّراسة وصروح العلم والتَّربيَّة تتلقَّى الكثير مِن المعرفة والتَّصوُّرات والرُّؤى مِن هذه المحاضن نتيجة لكونها تلامس فراغا لديهم فتكون هي أوَّل مَن يبذر ويحرث ويزرع فيه. وإذا ساد الجهل والأميَّة ساد التَّخلُّف والتَّعصُّب والسلوكيَّات السَّلبيَّة.
وتُعدُّ رواندا اليوم مِن أفضل (3) دول في تجربة النُّهوض بالتَّعليم، بحسب تقرير اليونسكو لعام 2014م. ولم تقفز رواندا إلى هذا المستوى بين عشيَّة وضحاها، لكنَّه العزم والإصرار الَّذي خرج مِن رحم المعاناة. فرواندا بعد المذبحة خرجت وبنيتها ومرافقها التَّعليميَّة مدمَّرة، بل أصبح المعلِّمون أنفسهم ما بين قتيل وسجين وفار خارج البلاد. وانقطعت عمليَّة التربية والتعليم في ظلِّ الاحتراب الأهلي الَّذي أكل الأخضر واليابس.
اهتمَّت رواندا بالتَّعليم باعتباره المدخل الحقيقي للنُّهوض بالبلاد وعجلة التَّنمية في كافة المستويات. فتحويل الأبناء إلى منتجين، وبناة عمران، وصنَّاع حضارة، لا يتمُّ مع تسيُّد الجهل والأميَّة. كما أنَّ الاعتماد على العقول الخارجيَّة مكلف على الدَّولة ومضرٌّ بالمجتمع على المدى المتوسِّط والبعيد.
كانت أوُّل خطوة قامت بها رواندا في مجال التَّعليم إعادة المعلِّمين مِن خارج البلاد، والقيام بتأهيلهم وتدريبهم، مع اتِّباع سياسة التَّعليم المجَّاني، لجميع أبناء المجتمع، بعد أن قامت بإعادة تأهيل الأطفال نفسيًّا وفكريًّا، وعلميًّا، واعتمدت خطَّة خمسيَّة لمحاربة ظاهرة التَّسرُّب مِن التَّعليم، حتَّى وصلت نسبة الطُّلاب المنتظمين في التَّعليم، في آخر إحصائيَّة إلى 97% في المرحلة الابتدائيَّة، و73% في التَّعليم المتوسِّط. واتَّجهت سياسة التَّعليم الحديث في رواندا إلى الاعتماد على التِّكنولوجيا؛ حيث عقدت الحكومة الرُّوانديَّة شراكة مع (Microsoft) لمحو الأميَّة الرَّقميَّة في البلاد.
في جانب آخر، قرَّرت الحكومة الرُّوانديَّة عام 2008م اعتماد اللُّغة الإنجليزيَّة بديلًا عن اللُّغة الفرنسيَّة في مناهج الدِّراسة والتَّعليم، باعتبارها اللُّغة العالميَّة الأكثر انتشارًا في العالم، ولغة العلم الأبرز في العصر الحديث. كما أطلقت رواندا في عام 2019م قمرًا صناعيًّا خاصًّا بها للاتِّصالات، في إطار تطوير النِّظام التَّعليمي. ولم تكتف بذلك، بل خصَّصت الحكومة 44% مِن ميزانيَّتها للتَّعليم والصِّحَّة سنويًّا، وهي نسبة ضخمة تشير إلى مدى العناية الَّذي حظي به التعليم في سياسة الحكومة.
قصَّة النَّجاح في المجال الاقتصادي:
تقضي الحروب عادة على مقدَّرات الأفراد والأسر والمجتمعات، نتيجة توقُّف عجلة الإنتاج والبناء والنَّقل والاستثمار، أو تعطُّلها بشكل كبير جدًّا. والفقر عادة مِن متلازمات الحروب في أي بلد تحلُّ به. لذا فليس مِن المستغرب أن ينخفض النَّاتج المحلِّي الإجمالي برواندا مسجِّلًا انخفاضًا سريعًا بأكثر مِن 40 ٪ في عام 1994م، حيث دمَّرت الحرب القاعدة الاقتصادية الهشَّة للبلاد، وأدَّت إلى إفقار السكَّان، وقوَّضت قدرة البلاد على جذب الاستثمارات الخارجيَّة؛ فرواندا بلد ريفي بالأساس، ويعمل 90٪ مِن سكَّانه في الزِّراعة، ويملك موارد طبيعيَّة قليلة، وحدًّا أدنى مِن الصناعات.
تمكَّنت حكومة رواندا الَّتي جاءت بعد الحرب مِن تطويق آثار الحرب الأهليَّة الَّتي عاشتها، ودمَّرت بناها، ومزَّقت مجتمعها، ومِن إرساء حالة مِن التَّقدُّم الاقتصادي، وتعزيز التَّنمية المستدامة، بعد أن كانت إحدى دول القارَّة الأفريقيَّة الَّتي لا يعرف عنها إعلاميًّا إلَّا الأمراض والأوبئة والحروب الدَّمويَّة.
اعتمدت الحكومة برنامجًا لتحسين اقتصاد البلاد، وتقليل اعتمادها على زراعة الكفاف؛ وسجَّلت معدَّل نمو بلغ 13٪ في عام 1996م، مِن خلال الخصخصة المتسارعة للمؤسَّسات الخدميَّة الحكومية، والتَّحسين المستمر في إنتاج المحاصيل الزِّراعيَّة الثَّروة الحيوانيَّة. وبحلول منتصف عام 1997م عاد ما يصل إلى 75٪ مِن المصانع التي كانت تعمل قبل الحرب إلى الإنتاج.
وتقول الأرقام إنَّ معدَّل النُّمو الاقتصادي في رواندا بلغ 8%، وتقلَّص الوقت اللَّازم لإنشاء نشاط تجاري فيها مِن (43) يومًا، إلى (4) أيَّام فقط؛ وبهذا تصدَّرت عام 2016م الدُّول الأفريقيَّة في استقطاب رجال الأعمال، خاصَّة مع توفير أجواء آمنة للعمل فيها.
لم تكتفِ رواندا بتنويع مصادر الاقتصاد، إذ حرصت على استدامتها مِن خلال استشراف مستقبل القطاعات والفرص الاقتصاديَّة النَّاشئة، وتطوير الخدمات الماليَّة والمهنيَّة والنُّهوض بصناعات التَّعدين والزَّراعة. وقد صنَّف البنك الدُّولي اقتصاد رواندا بأنَّه مِن أسرع الاقتصادات العالميَّة نموًّا، كونها احتلت المركز السَّابع عالميًّا مِن حيث معدل النُّمو الاقتصادي. ويعتبر الإنسان الرُّواندي المحرِّكَ الرَّئيس لدفع عجلة التَّنمية والاستدامة في تلبية الحاجة الملحَّة للنُّمو الاقتصادي.
لقد كان النُّمو الاقتصادي في رواندا مدفوعًا بالدَّرجة الأولى بالتَّحرير "liberalization" في القطاع الزِّراعي، وبخاصَّة البنُّ والشَّاي، وهما أهمُّ صادرات البلاد. وقد سمحت هذه الإصلاحات للمنتجين الاستفادة بشكل كبير مِن طفرة الصَّادرات، وزيادة الدَّخل، وزيادة الإنتاجيَّة مِن خلال الاستثمارات الرَّأسماليَّة. كما ساهمت السِّياحة الدِّيناميكيَّة والقطاعات الصِّناعيَّة (التَّعدين والبناء) في النَّجاح الاقتصادي الأخير.
وقد سعت دولة رواندا إلى الوصول إلى الاستقرار الاقتصادي، مِن خلال القوانين المتعدِّدة الَّتي تشجِّع على الاستثمار؛ حيث أنَّ القوانين الرُّوانديَّة تعمل على:
جذب مختلف أنواع الاستثمارات، والتَّرحيب بكافَّة المستثمرين، وتقديم الإعفاءات الضَّريبيَّة لمعظم المشاريع الاستثمارية.
السَّعي إلى زيادة الصَّادرات، وتحسين جودة المنتجات المصدَّرة، وتشجيع الاستثمارات الَّتي تقوم عليها.
التَّرحيب بمختلف رؤوس الأموال، حتَّى الصَّغيرة مِنها.
العمل على جذب الخبرات والمؤهَّلات والمعدَّات الجديدة، وتدريب الرُّوانديِّين عليها.
السَّعي إلى التَّخلُّص مِن المديونيَّة المترتبة على الدَّولة تجاه الدُّول الأخرى.
تسهيل عمليَّات الدُّخول للمستثمرين إلى الدَّولة مِن غير الحاجة إلى تأشيرة.
المساواة بين المستثمر الأجنبي والمحلِّي، في الحقوق والواجبات.
سهولة الإجراءات والحصول على التَّراخيص، حيث يحصل المستثمر على رخصة مزاولة أعماله بفترة قياسية لا تتجاوز (3) أيَّام، وإمكانيَّة تجهيز الطَّلبات إلكترونيًّا.
إمكانيَّة البدء بالعديد مِن المشاريع الاستثماريَّة، سواءً كانت صغيرة أو متوسِّطة أو كبيرة، بمختلف القطاعات ومِن أهمها الزَّراعة.
باتت رواندا نموذجًا ملهما لدولة أفريقيَّة نجحت في تحقيق مجموعة مِن أسرع معدَّلات ومؤشِّرات التَّنمية في القارَّة الأفريقيَّة، وفي زيادة فرص العمل، وتنويع الاقتصاد، وتعزيز مصادر الدَّخل الفردي والقومي، لتقدِّم نفسها كمعجزة اقتصاديَّة أفريقيَّة ملهمة.
ومِن الحقائق المهمَّة الَّتي يجب الإشارة إليها في قصَّة النَّجاح الاقتصادي، أنَّ الفرد الرُّواندي تضاعف دخله أكثر مِن (30) مرَّة، نتيجة الانتعاش الاقتصادي؛ إضافة إلى احتفال رُوَاندا في عام 2020م بالقضاء على الفقر.
قصَّة المرأة ودورها في رواندا:
عانت النِّساء في رواندا ظروفًا قاسية، وذلك في الفترة مِن 1962م وحتَّى وقوع الإبادة الجماعيَّة عام 1994م؛ فلم تتلقَّ القدر الكافي مِن التَّعليم. فقد كانت نسبة وجود الفتيات في التَّعليم الثَّانوي ضئيلة جدًّا، فهناك فتاة واحدة مقابل (7) مِن الذكور.
لقد كانت الفرص المتاحة أمام المرأة الرُّوانديَّة محدودة جدًّا، إذ لا يمكنهن مِن تحسين ظروفهن، فضلاً عن تعرض الكثير منهن للعنف ومصادرة الحقوق.
كانت أحداث الإبادة الجماعيَّة -الَّتي وقعت في عام 1994م- نقطة التَّحوُّل في تاريخ رواندا؛ فقد كنَّ النِّساء أكثر المتضرِّرين، حيث تعرَّض الآلاف مِنهنَّ إلى الاغتصاب. وكما هو الوضع في أفريقيا يمثِّل النِّساء والأطفال الوقود الأساسي للحروب، سواء في النِّزاعات الأهليَّة أو الصِّراعات المسلَّحة.
وقد استمرَّت معاناة النِّساء جرَّاء عدم المساواة، بعد الإبادة الجماعيَّة، إلَّا أنَّهنَّ لعبن دورًا مهمًّا في إحلال السَّلام، وإعادة الإعمار بعد الدَّمار الَّذي طالها، حيث بلغ عدد النِّساء فيما بعد الإبادة الجماعيَّة نحو 70% مِن إجمالي عدد السُّكَّان، كما ساهمن في إنعاش الاقتصاد مِن خلال مباشرتهنَّ للأعمال التِّجاريَّة، سواء الخاصَّة بآبائهنَّ وأزواجهنَّ، أو بمشاريعهنَّ الخاصَّة بوصفهنَّ مواطنات يحملن مسئوليَّة بناء المجتمع، بعد مقتل أغلب الرِّجال خلال الحرب الأهليَّة. وقد استطاعت النِّساء خلق مكاسب لهنَّ مِن رحم َالأزمة، حتَّى عدَّت النِّساء المحرك الأساسي للتَّعافي الاقتصادي.
كفل الدُّستور الرَّواندي الجديد، الصَّادر في عام 2003م، تحقيق المساواة بين الجنسين، وتمكين النِّساء. ويعود الفضل في ذلك إلى مشاركة النِّساء في لجنة صياغة الدُّستور. فقد شغلت المرأة ثلاثة مقاعد مِن أصل اثنا عشر مقعدًا في اللَّجنة المكلَّفة بصياغة دستور جديد لرواندا، والَّذي أُقرَّ باستفتاء شعبي عام 2003م، ممَّا سهَّل عليهنَّ إبداء آرائهنَّ والتَّمسُّك بها، لأنَّهنَّ الأمثل في تحديد الصُّعوبات الَّتي يواجهنها؛ وبالتَّالي تحديد الطَّريقة المثلى في مواجهة تلك العقبات. ونتج عن ذلك أن قضت اللَّجنة المختصَّة بصياغة الدُّستور بسنِّ تشريعات تتلاءم مع مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص؛ لا سيَّما التَّشريعات الَّتي تتضمَّن التَّمييز بين الجنسين.
تمكَّنت النِّساء مِن الحصول على نسبة 61٪ مِن مقاعد البرلمان خلال الانتخابات التَّشريعيَّة، لتسجِّل بذلك أعلى نسبة في العالم، حتَّى اشتهرت مقولة أنَّ رواندا بلد تحكمه النِّساء. كما تقلَّدت المرأة في رواندا أعلى المناصب القياديَّة؛ ففي القضاء أصبحت رئيسة المحكمة العليا، وتولَّت منصب مفوضيَّة الشُّرطة، كذلك تولَّت عددًا مِن الحقائب الوزاريَّة كوزارة التَّعليم، ووزارة الخارجيَّة، فضلًا عن زيادة نسبة تولِّيها المناصب السِّياسيَّة ومراكز اتِّخاذ القرار في الحكومة، حيث وصلت بحلول عام 2010م إلى 56٪، وبذلك سُجِّلت كأعلى نسبة تمثيل للمرأة على نطاق حكومات دول العالم.
في ذات السِّياق، صدر تقرير الاتِّحاد البرلماني الدُّولي بشأن نسبة مشاركة المرأة في المجالس التَّشريعيَّة في جميع أنحاء العالم، وقد رصد فيه حجم تمثيل النِّساء في البرلمانات، في عام 2020م، إذ زاد بنسبة 60٪ عن عام 2019م، وكانت رواندا إحدى الدُّول الثَّلاث الَّتي خصَّها الأمين العام للاتِّحاد بالذِّكر، لما حقَّقته مِن إنجاز فيما يتعلَّق بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين.
ساهمت النِّساء الرُّوانديَّات بأدوار رئيسة في لجان الحقيقة والمصالحة، والَّتي عملت غالبًا على مستوى المجتمع المحلِّي؛ فعملت مديرة في تلك اللِّجان على المستوى الوطني، وقاضية، وشاهدة رئيسة.
لقد أظهرت المرأة الرُّوانديَّة -لأوَّل مرَّة في التَّاريخ- ما يمكن حدوثه عندما تكون النِّساء مشمولات بعمليَّة بناء السَّلام. ولا شكَّ أنَّ التَّجربة الرُّوانديَّة المهمَّة لا بدَّ أن تكون مثالًا يحتذى به على الصَّعيد العالمي، حيث يمكن للنِّساء أن تلعب دورًا مهمًّا في إحلال السَّلام، والحفاظ عليه، والعدالة الانتقاليَّة، وإعادة الإعمار.
قصَّة التَّعايش بين الفرقاء:
مضى أكثر مِن ربع قرن على الإبادة الجماعيَّة في رواندا، والَّتي أريق فيها دماء أكثر مِن 75% مِن عرقيَّة التَّوتسي في البلاد، الأمر الَّذي ترك إرثًا ثقيلًا للغاية. وقد سعت رواندا جاهدة للتَّخلُّص مِن هذا الإرث، بكلِّ الوسائل، وقد نجحت في ذلك بكلِّ اقتدار، إذ يعيش الآن النَّاجون مِن الإبادة الجماعيَّة والجناة جنبًا إلى جنب، ويندمج القتلة المدانون مع المجتمع بشرط تقديم اعتذارات علنيَّة عن جرائمهم، بينما يقدِّم النَّاجون المغفرة والتَّسامح لإتمام مصالحة هي الأكثر تعقيدًا في المنطقة والعالم.
لقد تبنَّت رواندا مبدأ الطَّمأنة بين الفرقاء المتقاتلين، وإعادة دمجهم داخل المجتمع، والمساهمة في بناء السَّلام بين الرُّوانديِّين، وإنها ملفِّ الحرب والاستبداد؛ فقامت الحكومة الرُّوانديَّة باتِّخاذ مجموعة مِن القوانين الَّتي كان مِن نتائجها لحمة الشَّعب الرُّواندي وتعايشه. مِن هذه القوانين قوانين مناهضة التَّمييز العنصري والطَّائفي، وإلغاء خانة التَّصنيف الإثني في بطاقة الهُويَّة.
كما عمدت إلى اعتبار مبدأ الكفاءة أساسًا في عمليَّة التَّعايش؛ وجرمت نشر الأفكار الانفصاليَّة، وتعزيز الخلافات الإثنيَّة. وكان شعار الرَّئيس، بول كيغامي، للمرحلة: "لم نأت لأجل الانتقام، فلدينا وطن لنبنيه، وبينما نمسح دموعنا بيد، سنبني باليد الأخرى"، فكان يهدف إلى تأسيس وحدة ومصالحة بين الرُّوانديِّين.
وفي حين تأسَّست محكمة دوليَّة لجرائم الإبادة في أروشا بتنزانيا لمحاكمة القادَّة والمخطِّطين، حوكم مئات الآلاف مِن المتَّهمين بالمشاركة في أعمال القتل داخل المحاكم الرُّوانديَّة.
ومِن القصص المذهلة في عمليَّة التَّعايش "أنَّ المئات مِن أقارب الضَّحايا كانوا يزورون السُّجون يوميًّا ليغفروا للجناة، ممَّا أثَّر بشكل عميق في نفسيَّة المجتمع، وداوى الجراح العميقة الَّتي لم تشفها عقوبة الإعدام".
وبدأ النِّظام الرُّواندي التَّركيز على أربعة عناصر مهمَّة لإعادة السِّلم الدَّاخلي:
ترسيخ عمليَّة الأمان والاستقرار.
العمل على عودة اللَّاجئين، واستيعاب المليشيَّات في الأعمال والوظائف وإعادة التَّأهيل.
إنعاش الاقتصاد وتعزيز عجلة التَّطوير والتَّنمية.
بناء مؤسَّسات الدُّولة وأجهزتها السِّياديَّة والخدميَّة بشكل شامل ومتوازن.
اليمن والتجربة الروانديَّة:
تتعدَّد أوجه التشابه بين الواقع اليمني والتجربة الروانديَّة، وإن ظلَّت هناك فوارق عدَّة تجعل مِن غير المنطقي استنساخ هذه التجربة بالمطلق في بيئة مختلفة تمامًا دون مراعاة الفوارق، وسواء كانت تلك الفوارق في البيئة والموقع الجغرافي والموارد والتركيبة الديمغرافيَّة والفرص والمخاطر والموارد والفرص.
ولكي تتمَّ الإفادة مِن هذه التَّجربة الرواندية الملهمة لا بدَّ مِن التَّعمُّق أكثر في أبعادها وملابساتها والعقول والنَّفسيَّات التي قادت للتغيير وتجاوز آثار الحرب، والعوامل التي أسهمت في تجاوز الكارثة محليَّة كانت أو خارجيَّة. كما أنَّ الجلوس مع قادة هذا التَّغيير واللقاء بهم، والحوار في مسارات التفكير والعمل التي سلوكها للانطلاق نحو المستقبل ومعالجة الماضي بشكل نهائي لعدم إبقاء ألغام قابلة للانفجار مستقبلا.
اليمن اليوم يعيش مرحلة صعبة جدًّا، في ظلِّ الصراع الدائر بين أبناء المجتمع حول قضايا عدَّة تدور حول السلطة والثروة، وتتشابك فيها الأهداف المحليَّة بالأجندات الإقليميَّة والدَّوافع الخارجيَّة. وعقب أكثر مِن (8) سنوات مِن الحرب لا يزال العنف والقتال هو سيد المشهد، رغم كلِّ المساعي التي بذلت لتجاوز الأزمة والجنوح نحو الحلول السياسية والسلمية.
تتشابه التجربتان في هشاشة حضور الدَّولة، والتَّدخُّل الخارجي في توظيف المتناقضات الخارجيَّة، وضعف الحالة الاقتصادية ومستوى الفقر في المجتمع، وارتفاع معدَّل الجهل والأميَّة، وطول أمد الصراع الذي أضرَّ ببنى الدَّولة والمجتمع. ومِن ثمَّ فإنَّ هذه الأوجه المتشابهة والظُّروف المتقاربة تقتضي الإفادة مِن حزمة الحلول التي تبنَّتها القيادة الروانديَّة كمخارج ومعالجات، مع التَّمكُّن مِن استيعابها والإلمام مِن تفاصيلها.
ولا تتوقف الإفادة التجربة الروانديَّة على مستوى السياسات الحكوميَّة بل تتجاوزه إلى مستوى الاستجابات والمبادرات المجتمعيَّة التي شكَّلت مع بعضها نسيجا متَّحدًا كخارطة طريق للروانديين. فقبول المجتمع الرواندي بسياسات وخطط الحكومة، وانخراطه في تنفيذها والعمل بها، جزء لا يتجزَّأ مِن عوامل النِّجاح التي ساهمت في النهوض برواندا. فالتحوُّلات الكبرى في أي مجتمع تعتمد على استيعاب المجتمع لمسار التَّقدُّم والتطوُّر فيه.
لتحميلا لمادة اضغط هنا