زيارة رئيس مجلس القيادة الرئاسي إلى مأرب: السياق والدوافع
Getting your Trinity Audio player ready... |
مقدمة
قام رئيس مجلس القيادة الرئاسي، د. رشاد العليمي، ومعه عضوا مجلس القيادة الرئاسي: عبدالله العليمي وعثمان مجلِّي، بزيارة إلى محافظة مأرب، يوم الاثنين الموافق 29 أبريل 2024م. وهي الزيارة الأولى له منذ تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في أبريل 2022م. وقد عقد رئيس مجلس القيادة خلال الزيارة اجتماعات موسَّعة مع قيادة السلطة المحلِّية والأجهزة التنفيذية، والوجاهات الاجتماعية والشعبية في المحافظة؛ كما عقد لقاء خاصًّا مع قيادات الجيش الوطني. وشهد عرضًا عسكريًّا في كلِّية الطيران، وزار بعض جبهات القتال، وحرص على توجيه عدد مِن الرسائل السياسية والعسكرية مِن محافظة مأرب، حيث الثقل العسكري للجيش الوطني والحاضنة السكَّانية الداعمة له. وقد جاءت الزيارة في ظلِّ تطوُّرات إقليمية ودولية ألقت بظلالها على المشهد اليمني، وجعلت مساراته المستقبلية تتأرجح بين السلم والحرب، مع ميلان نسبي لصالح الأخير.
هذه الورقة تتناول دوافع الزيارة، ودلالاتها، وما الذي يمكن أن يترتَّب عليها.
السياق والتوقيت
جاءت زيارة “العليمي” لمأرب في ظلِّ تطوُّرات إقليمية أدَّت إلى تعثُّر خارطة السلام في اليمن، والتي بلورتها المملكة العربية السعودية بناء على جولات مِن مفاوضاتها مع جماعة الحوثي، وكان مِن المتوقَّع أن يتمَّ التوقيع عليها في نهاية العام الماضي، غير أنَّ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزَّة حال دون ذلك. فقد شنَّ الحوثيون هجمات على الملاحة الدولية في البحر الأحمر وخليج عدن. وأحدثت تلك الهجمات تغيُّرًا نسبيًّا في الموقف الأمريكي مِن الصراع في اليمن، فقد وقفت الولايات المتَّحدة الأمريكية خلف تشكيل تحالف عسكري بحري في مواجهة تهديدات الحوثيين، أطلقت عليه “حارس الازدهار”. ومع استمرار الهجمات أدركت الدول الغربية أنَّ الحوثيين لم يعودوا جماعة محلِّية تتنازع السلطة والموارد مع أطراف يمنية أخرى بقدر ما باتت طرفًا يهدِّد المصالح الدولية الحيوية. كما أدركت كذلك ارتباط الحوثيين الكبير بسياسات إيران وأجنداتها في المنطقة.
ومع اتِّساع التداعيات التي تركتها هجمات الحوثيين على خطوط الملاحة الدولية والمصالح الاقتصادية الدولية اضطرَّت الولايات المتَّحدة وبريطانيا إلى شنِّ هجمات على أهداف في مناطق سيطرة الحوثيين، وأدرجتهم ضمن قائمة الجماعات الإرهابية، ومارست ضغوطًا على السعودية لمنع التوقيع على خارطة السلام، ودعمت تأكيد مجلس الأمن الدولي على القرار رقم (2216/ 2015م)، وهو القرار الذي يُعطي المشروعية للحرب في اليمن، وبالتعامل مع الحوثيين كجماعة انقلابية، وأظهرت دعمًا نسبيًّا للسلطة الشرعية، فقد رعت -بشكل غير مباشر ومِن خلال المعهد الديمقراطي الوطني للشئون الدولية- حوارًا بين المكوِّنات والأحزاب المنضوية تحت مجلس القيادة الرئاسي في مدينة عدن، استمرَّ لمدَّة يومين، ونتج عنه الإعلان عن البدء للإعداد لتشكيل تكتُّل سياسي وطني واسع. وعلى الأرجح فإنَّ الولايات المتَّحدة ترغب في أن تظهر القوَّات العسكرية التابعة للسلطة الشرعية أكثر تماسكًا، وفي هذه النقطة تحديدًا، فإنَّ زيارة “العليمي” إلى مأرب وإن حدثت دون إيعاز مِن الأمريكيين إلَّا أنَّها لاقت على الأرجح رضا مِن قبلهم.
ومِن ناحية أخرى، جاءت الزيارة في ظلِّ تحسُّن مطَّرد في مناطق السلطة الشرعية؛ فقد تراجع التوتُّر بشكل نسبيٍّ بين “المجلس الانتقالي” والسلطة الشرعية، وغدت الحكومة أكثر استقرارًا في العاصمة المؤقَّتة عدن، وصارت المحافظات أكثر ارتباطًا بها، وكان “العليمي” قد قام بزيارات إلى عدد مِن المحافظات، حيث زار محافظة حضرموت في 24 يونيو 2023م، وبعدها بأسابيع قام بزيارة مماثلة إلى محافظة المهرة، عوضًا عن زيارة أخرى لها بتاريخ 22 أكتوبر 2023م للوقوف على السيول التي ألحقت أضرارًا بها. وقام رئيس الوزراء المـُعيَّن حديثًا، أحمد عوض بن مبارك، بزيارة تفقُّدية إلى محافظة حضرموت. وفي الوقت الذي كان رئيس مجلس القيادة في مأرب كان وزير الدفاع يتفقَّد القوَّات الحكومية في محافظة حضرموت.
وجاءت الزيارة كذلك في ظلِّ توجُّه حكومي لتنفيذ إصلاحات مالية واقتصادية؛ فقد تبنَّى رئيس الحكومة، أحمد عوض بن مبارك، رؤية لمحاربة الفساد، وتوحيد الوعاء الضريبي، وفرض رقابة على عملية التحصيل والإشراف الحكومي المباشر، وأعاد تفعيل مؤسَّسات الدولة وحضورها. وفي هذا الجانب فإنَّ البعض يتخوَّف أن يكون الهدف مِن زيارة “العليمي” لمأرب هو الضغط على السلطة المحلِّية لتنفيذ الزيادة في أسعار المشتقَّات النفطية، التي كان قد جرى تنفيذها في 30 ديسمبر 2023م، غير أنَّها تسبَّبت في حدوث توتُّر بين السلطة المحلِّية وبعض المكوِّنات الاجتماعية في المحافظة، حيث سارعت لتشكيل مطارح قبلية رفضًا للأسعار الجديدة اُضطرَّت معها السلطة المحلِّية إلى تأجيلها بعد أن تدخَّلت وساطات محلِّية بين الطرفين. كما أنَّ هناك مخاوف مِن أن يكون الهدف مِن الزيارة هو الضغط على السلطة المحلِّية لتوريد الموارد المالية إلى البنك المركزي في عدن، الأمر الذي يثير هواجس الكثيرين مِن أن توضع تلك الموارد في أولويَّات أخرى وأن تكون على حساب الجيش الوطني والمقاتلين في الجبهات.
الأهداف والدوافع
مِن خلال تحليل السياق، وخطابات رئيس مجلس القيادة الرئاسي، يمكن القول إنَّ الزيارة تحرَّكت بعدد مِن الدوافع وسعت إلى تحقيق الأهداف التالية:
- إظهار تماسك السلطة الشرعية
فعلى الأرجح أنَّ الزيارة تستهدف إظهار تماسك السلطة الشرعية، وتكامل مكوِّناتها، وحضورها في مختلف المحافظات الواقعة تحت سيطرتها، وأنَّها تعكس الارتباط بين القيادتين: السياسية والعسكرية، لا سيَّما وأنَّ معظم قيادات الجيش الوطني موجودة في مأرب، وفي مأرب أيضًا توجد الكتلة السكَّانية الأكبر التي تنتصب في مواجهة المشروع الحوثي ودفاعًا عن الجمهورية، وتضمُّ قبائل المحافظة وملايين مِن الذين نزحوا مِن مختلف المحافظات هربًا مِن تنكيل الحوثيِّين أو رغبة في الالتحاق بالجبهة المقاومة لهم، وهذه الكتلة هي التي خاضت مع الحوثي ما يزيد على ثمان سنوات مِن المعارك الطاحنة، وهي المعنية أكثر مِن غيرها بمواجهة وإجهاض مشروعه الانقلابي.
- تدعيم الروح المعنوية ورفع الجاهزية
إذ يبدو أنَّ تدعيم الروح المعنوية للكتلة العسكرية والسكَّانية في مأرب، ورفع جاهزيتها، وردِّ الجميل لها، كان مِن ضمن الدوافع الرئيسة للزيارة، فقد حرص رئيس مجلس القيادة الرئاسي على توصيل رسائل إسناد وتحفيز للمكوِّنات العسكرية والشعبية وأجهزة الأمن والسلطة المحلِّية؛ فقد وصف محافظة مأرب بأنَّها “صمام أمان الجمهورية، وبوابة النصر لاستعادة مؤسَّسات الدولة وما تبقَّى مِن المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين”، مشيدًا بالانضباط العالي والجاهزية القتالية للقوَّات المسلَّحة والأمن، وبطولات رجال الجيش والمقاومة الشعبية خلال السنوات الماضية، مؤكِّدًا اعتزازه بكلِّ جندي وصف وضابط ومقاوم في كافَّة مواقع القتال، و”أنَّ هذه القوَّة التي خاضت على مدى السنوات الماضية، معركة مقدَّسة مِن أجل الجمهورية والدولة، هي صمام أمان الوطن، وستثمر تضحياتها نصرًا مؤزَّرًا، وأعلن أنَّ “مأرب بكلِّ مَن فيها هي الأمل اليوم، مثلما كانت الأمل في البداية عندما رفضت وقاومت المشروع الإمامي المدعوم مِن النظام الإيراني”.
ووفَّرت الزيارة فرصة لرئيس مجلس القيادة للاطِّلاع على مستوى الجاهزية القتالية في عدد مِن الجبهات بالمحافظة، كما وفَّرت له كذلك فرصة لتوصيل رسالة ذات مغزى للحوثيين، مفادها أنَّ الجيش الوطني على درجة عالية مِن الجاهزية في حال نكص الحوثيون عن مسار السلام أو فكَّروا باستثمار العمل الدعائي لهجماتهم في جنوب البحر الأحمر في العودة بالبلاد إلى دائرة الحرب والمواجهات العسكرية الكبيرة.
ولرفع الجاهزية وتدعيم المعنويَّات أكَّد “العليمي” “أنَّنا سننطلق مِن هنا، ومِن كلِّ المحافظات، لتحرير المناطق التي ما زالت تحت سيطرة مليشيا الحوثي الإرهابية المدعومة مِن النظام الايراني، وسيتحقَّق النصر مِن خلال القوَّات المسلَّحة بكافَّة تشكيلاتها والمقاومة الشعبية المساندة لها”.
ولدورها الفاعل خلال السنوات السابقة، وجَّه رئيس مجلس القيادة بمنح هيئة التدريب والتأهيل بوزارة الدفاع شهادة تقدير، نظير جهدها لرفع قدرات منتسبي القوَّات المسلَّحة، ومنح قوَّات الأمن الخاصَّة في محافظة مأرب شهادة تقدير نظير جهدها المتميِّز في تثبيت الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب، والتصدِّي لمحاولات مليشيا جماعة الحوثي استهداف الجبهة الداخلية، وزعزعة أمن واستقرار المحافظة، وسكينتها العامة، وسلمها الاجتماعي.
- الاستعداد للخيارات المستقبلية
مِن الواضح أنَّ الهداف الأبرز للزيارة يتَّصل بالترتيبات لاستحقاقات المرحلة القادمة، وهي الاستحقاقات التي تتأرجح بين مسار التسوية السياسية ومسار العمل العسكري، مع ميلان للمسار الأخير في ظلِّ انتشاء الحوثيين بسبب هجماتهم في البحر الأحمر، وارتفاع أسهمهم في الشارع العربي، وفي ظلِّ إدراك الدول الغربية أنَّ جماعة الحوثي باتت تمثِّل مصدر تهديد لمصالحهم في المنطقة والعالم. وسواء سارت الأمور باتِّجاه المفاوضات حول السلام، أو انزلقت نحو الحرب، فإنَّ مجلس القيادة الرئاسي بحاجة إلى ترتيب قدراته العسكرية، وذلك لتعزيز الموقف التفاوضي في حال المضي في خارطة السلام أو لتحقيق مكاسب عسكرية في حال الحرب والقتال.
ومع تواضع ما تمَّ تحقيقه في ملفِّ دمج التشكيلات العسكرية والجيش الوطني، فإنَّ التعويل الأكبر يبقى على الجيش الوطني في مأرب، فمأرب تمثِّل مركز الثقل بالنسبة للجيش الوطني وللقاعدة السكَّانية المساندة له والمناهضة للحوثي. وقد أشار “العليمي” إلى أنَّ ما وصفها بمليشيا جماعة الحوثي “أثبتت أنَّها ليست شريكًا جادًّا لصنع السلام، وإنَّما تتَّخذ مِن الحديث عن السلام نوعًا مِن الخداع، والتحضير لحروب جديدة، وهو ما يحتمُّ العمل بكلِّ جهد واستعداد لفرض السلام المنشود”. وفي رسالة شديدة الوضوح قال رئيس مجلس القيادة الرئاسي: “يجب أن نعمل على عدَّة مسارات، ونتبنَّى شعار (يد تبني ويد تحارب لتصنع السلام)”.
وقد أشار “العليمي” إلى أنَّ ما وصفها بمليشيا جماعة الحوثي “أثبتت أنَّها ليست شريكًا جادًّا لصنع السلام، وإنَّما تتَّخذ مِن الحديث عن السلام نوعًا مِن الخداع، والتحضير لحروب جديدة،
ما الذي سيترتَّب على الزيارة؟
أحدثت الزيارة ردود فعل شعبية وسياسية وعسكرية واسعة، فقد لاقت ارتياحًا مِن قبل عدد كبير مِن المواطنين، وعدَّها كثير مِنهم مؤشِّرًا إلى تحسُّن إيجابي في وضع السلطة الشرعية، باعتبار الثقل التي تتمتَّع به مأرب على المستويات العسكرية والشعبية والرمزية، وبسبب تأخُّر الزيارة إذ مضى عامان على تشكيل مجلس القيادة الرئاسي دون أن يقوم “العليمي” بزيارة مأرب، وهو ما أظهر الجيش الوطني وكأنَّه يقاتل دون مظلَّة سياسية. كما أنَّ الزيارة ساهمت بشكل كبير في تحفيز السلطة المحلِّية للمضي قدمًا في تنمية وتطوير المحافظة، وفي رفع الروح المعنوية لقوَّات الجيش والأمن. كما أنَّها مثَّلت فرصة لطرح المشاكل والتحدِّيات التي يُعاني مِنها الجيش. وعلى الأرجح أنَّ عددًا مِن القرارات التي تمسُّ وضع الجيش، وخاصَّة ما يتَّصل مِنها بالمرتَّبات والتسليح والتدريب، وضِعت على طاولة “العليمي”، ومِن المتوقَّع أن تتمَّ الاستجابة للبعض مِنها على الأقل.
وسوف تتحدَّد آثار هذه الزيارة على المدى المتوسِّط بناء على المسار الذي ستمضي إليه التطوُّرات في اليمن، فستبرز الآثار الإيجابية بشكل أكبر في حال اتَّجهت الأمور نحو التصعيد العسكري مع جماعة الحوثي، حيث ستكون القيادة السياسية (وحتَّى دولتي “التحالف العربي) أكثر دعمًا للجيش الوطني، وأكثر التحامًا به، وستكون الأمور أقلَّ مِن ذلك في حال التوقيع على خارطة السلام.
وعلى مستوى أعضاء مجلس القيادة الرئاسي، فقد وفَّرت الزيارة لهم فرصة الاطِّلاع على التطوُّر الواسع الذي شهدته محافظة مأرب، وحالة الانضباط العالية التي يتمتَّع بها الجيش الوطني وقوَّات الأمن، والصوت الوطني الذي عبَّر به وجهاء مأرب أثناء لقاءاتهم مع رئيس وأعضاء مجلس القيادة. كما أنَّها عكست نفس الدولة الذي تتمتَّع به مأرب، وحالة الالتفاف الواسعة مِن قبل المكوِّنات الشعبية ووحدات الجيش والأمن حول رئيس وأعضاء مجلس القيادة، وبقيَّة مؤسَّسات السلطة الشرعية.
ومن جهة أخرى، فقد استفزَّت الزيارة جماعة الحوثي، فقد صعَّدت إعلاميا تجاه أبار النفط والغاز في صافر، وليس هناك يقين حول حدود هذا التصعيد، ودوافعه هل هو للابتزاز؟ أم قد يترجم إلى فعل متهوِّر يستهدف ما تبقَّى مِن موارد البلاد ومقدَّراتها السيادية؟|