طوفان الأقصى وموقف اليمنيين منها.. المسار التاريخي والاستجابة الراهنة

Getting your Trinity Audio player ready...

تمهيد:

فرض العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة على إثر هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في 7 أكتوبر 2023م، على قوَّات الكيان الصُّهيوني، وقيامها باعتقال عدد مِن الصَّهاينة، وتدميرها لعدد مِن الآليَّات العسكرية، بما أطلقت عليه عملية “طوفان الأقصى”، تفاعل الشُّعوب العربية والإسلامية قاطبة، بما في ذلك الشَّعب اليمني.

وقد كان اليمنيُّون -ولا زالوا- مِن أشدِّ الشُّعوب المؤيِّدة والمناصرة للقضية الفلسطينية، قولًا وعملًا، منذ بواكيرها الأولى في ثلاثينيَّات القرن الماضي، وحتَّى اليوم. وهم رغم مآسيهم ومعاناتهم التي خلَّفتها الصِّراعات الدَّاخلية والحرب بالوكالة، بين الأطراف اليمنية، لا زالوا ثابتين على نهجهم الرَّافض للاحتلال الصُّهيوني، والاعتراف بدولة إسرائيل، والمتمسِّك بفلسطين بلدًا عربيًّا مسلمًا، يضمُّ على أراضيه أتباع الدِّيانات المختلفة دون ظلم أو اضطهاد.

وقد كان اليمنيُّون حاضرون في كلِّ محطات الصِّراع الفلسطيني مع قوى الاحتلال الصُّهيوني، جسدًا وروحًا، واهتمامًا ووعيًا، ودعمًا وإسنادًا، مِن منطلق الإيمان بعدالة القضيَّة، والمعاني الدِّينية الرَّاسخة في الوعي المجتمعي حول حقِّ المسلمين جميعًا في هذه الأرض المباركة، وما لها مِن حضور كثيف في نصوص الكتاب والسُّنَّة، سواء في العقائد أو الشَّرائع، حيث كانت مهاجر الأنبياء، والقبلة الأولى، ومسرى الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم.

ويمكن في هذا الصَّدد رصد موقف اليمنيين مِن قضية فلسطين في مسارين: مسار رسمي حكومي، ومسار شعبي ومجتمعي، حيث كانت هذه القضية محلَّ إجماع اليمنيين، بما يجعل الخارج عن ذلك الإجماع شاذًّا في المجتمع.

تتناول هذه الورقة المسارين بشيء مِن العرض الموجز والقراءة السَّريعة للمواقف الرسمية والشعبية والمجتمعية، لبيان مدى اطِّراد هذه المواقف في الوعي الجمعي لدى اليمنيين حكَّامًا ومحكومين ونخب فكرية وثقافية، ومدى حضورها في أحداث غزَّة اليوم، وما يجري مِن عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين، واستقلالها في التَّعبير عن موقف وطني يمني.

موقف اليمن مِن تهجير اليهود إلى فلسطين:

انتهجت الحركة الصُّهيونية العالمية، التي أسَّسها “تيودور هرتزل” (2 مايو 1860م- 3 يوليو 1904م)، سياسة توطين يهود العالم في فلسطين، مِن خلال عملية تهجير واسعة للأقليَّات اليهودية مِن أنحاء العالم، ليحلُّوا تدريجيًّا محلَّ السُّكَّان الفلسطينيين الأصليين، مسلمين ونصارى. وبدأت حركة شراء الأراضي والعقارات تجري مِن قبل الوافدين اليهود تبرز وتنتشر. وقد انتعشت حركة الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين بعد الاحتلال البريطاني لها؛ وتلا ذلك مباشرة صدور “وعد بلفور”[1]، خلال الحرب العالمية الأولى، والذي مثَّل بيانًا لموقف الحكومة البريطانيّة المؤيِّد والمساند لإعلان دعم تأسيس “وطن قومي للشَّعب اليهودي” في فلسطين، وهو ما عزَّز قدوم موجات عديدة مِن اليهود المهاجرين إلى فلسطين.

ضمَّت اليمن وجودًا يهوديًّا على أراضيها منذ ظهور الدِّيانة اليهودية في الشَّرق الأوسط، ودخول عدد مِن اليمنيين في دعوة سليمان -عليه السَّلام. وبعد بعثة الرَّسول محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم، ودخول معظم اليمنيين في الإسلام، وعبر امتداد التَّاريخ الإسلامي في اليمن، تعايشت الأقلية اليهودية مع المسلمين في ظلِّ حالة مِن السِّلم والتَّعاون المجتمعي. وهو ما جعل المجتمع اليهودي في اليمن واسع الانتشار ومطَّرد النُّمو، وهو ما جعله هدفًا للصُّهيونية العالمية.

فقد ركَّزت الحركة الصُّهيونية جهودها واهتماماتها على يهود البلدان العربية كاحتياطي إستراتيجي لتوفير مادَّة بشرية تتشكَّل مِنها قاعدة الهرم الاجتماعية، بحيث يتاح لليهود الأوربِّيين أن يحتلُّوا لأنفسهم مواقع الطَّبقة الوسطى والطَّبقة الحاكمة. ومِن الطَّوائف اليهودية العربية الأولى التي اهتمَّت بها الزَّعامة اليهودية في العالم الرَّأسمالي الطَّائفة اليهودية اليمنية. فمنذ عام 1870م، وربَّما قبل ذلك، أرسل الصُّهيونيون مبشِّرين إلى اليمن بصفة باحثين، لاستطلاع أحوال يهود اليمن، ودراسة إمكانية تهجيرهم إلى فلسطين. ومِن المعروف أنَّ الهجرة اليهودية الأولى المنظَّمة إلى فلسطين مِن أورُّبا الشَّرقية، والتي بدأت في عام 1882م، ترافقت مع هجرة بعض يهود اليمن إلى فلسطين، حيث سكنوا في القدس، في حيٍّ خاصٍّ للحرفيِّين في (سلوان)، كما استوطن قسم مِنهم في يافا.[2]

كان مِن أبرز قرارات المؤتمر الصُّهيوني الثَّامن، والذي عُقد في “لاهاي”، في 14- 16 أغسطس 1907م، تأسيس مكتب في فلسطين للقيام بمتابعة عملية استقبال اليهود المهاجرين وتوطينهم. وفي عام 1911م، أوفد مكتب فلسطين “صموئيل اليعزر بن باروش يافينلي” إلى اليمن للالتقاء بيهود اليمن وإقناعهم بالهجرة إلى فلسطين. وتمكَّن “يافينلي” أن يوسِّع مِن دائرة نشاط تهجير اليهود اليمنيين إلى فلسطين، بمساعدة الحاكم البريطاني في عدن، فغادرت أوَّل مجموعة إلى فلسطين عبر ميناء عدن عام 1911م، وبلغ العدد حتَّى عام 1912م أكثر مِن 4200 شخص[3].

استمرَّت هذه الهجرة خلال فترة الانتداب البريطاني لفلسطين حتَّى بلغ عدد المهاجرين اليهود مِن اليمن خلال الفترة 1923م- 1930م 2.500 شخص؛ جميعهم جرى نقلهم عبر مدينة وميناء عدن، مِن مختلف مناطق اليمن شمالًا وجنوبًا. وقد وصل عدد المهاجرين اليهود خلال الفترة 1939م- 1945م 4.700 شخص.

وقد واجه اليمنيون في عدن هذه السِّياسة البريطانية تجاه تهجير اليمن إلى فلسطين بخروج مظاهرات احتجاجية عديدة، غير أنَّ تلك المظاهرات لم تثنها عن سياستها تلك، حيث استمرَّت في دعم اليهود وتسهيل السَّفر لهم والهجرة إلى فلسطين بشكل أكبر.

هذه الهجرة لم تلفت انتباه الشَّعب اليمني الذي كان يعيش في الشَّمال عزلة تامَّة عن العالم نتيجة حالة الفقر والتَّخلُّف الشَّديد التي تسبَّبت فيها سياسة الأئمَّة الزَّيديون الذين حكموا اليمن بمنظور كهنوتي وقبضة استبدادية مغلقة، وظلَّ يسعى للخروج مِن هذه الحالة وتغيير واقعه.

عقب 3 أشهر مِن ثورة 1948م في اليمن، جرى الإعلان عن قيام دولة إسرائيل في فلسطين، وكانت الولايات المتَّحدة الأمريكية أوَّل دولة تعترف بإسرائيل كدولة مستقلَّة، حيث أصدر الرَّئيس “هاري ترومان” بيانًا يعترف فيه بدولة إسرائيل واستقلالها. وهنا ارتفعت وتيرة تهجير يهود العالم إلى إسرائيل. وبدأت الأجهزة الصُّهيونية للتَّواصل مع الإمام أحمد بن يحيى حميد الدِّين، بعد تولِّيه الحكم وتمكُّنه مِن السُّلطة، في سبيل الإذن بهجرة يهود اليمن بشكل جماعي. وبدأ تفويج اليهود المهاجرين عبر مطار عدن إلى فلسطين، وخلال عامي 1948م و1949م هاجر ما يربو على 4.500 يهودي مِن اليمن.

وقد أسهم اتِّصال المندوب الصُّهيوني إلى عدن، والمندوب السَّامي لحكومة بريطانيا في عدن، بالإمام أحمد وبعض السَّلاطين في الجنوب، في تسهيل حركة وتنقُّل اليهود بشكل جماعي للوصول مِن مناطق اليمن المختلفة إلى عدن، استعدادًا لتهجيرهم لفلسطين.

وقد وضعت الوكالة اليهودية مع السُّلطات البريطانية “خطَّة لإشراك جميع الشُّيوخ وحكَّام الأقاليم لإجلاء يهود اليمن، بحيث لم يكن بمقدور أحدهم اتِّهام الآخر -أمام الرَّأي العام اليمني- بمساعدة اليهود”، وقد شكَّل الاتِّفاق مع سلاطين المحميَّات وبعض حكَّام الأقاليم الجنوبية مِن اليمن الشَّمالي “غطاءً مناسبًا للإمام أحمد لعقد الصَّفقة النِّهائية مع مبعوثي الحكومة الإسرائيلية، بشكل غير مباشر، لإتمام المرحلة الثَّالثة مِن عملية الهجرة الجماعية”. وتشير المصادر الصُّهيونية “أنَّ إسرائيل تدين كثيرًا للإمام أحمد، لأنَّه لم يضع عراقيل في وجه خروج أهل اليمن الجماعي”.[4]

عُرِفت عملية تهجير يهود اليمن إلى فلسطين بـ”البساط السِّحري”، وقد بلغت تكلفتها 4.5 مليون دولار، وشملت 430 رحلة جوية، لنقل ما يزيد على 47 ألف شخص إلى إسرائيل[5]. وكلُّ هذه الجهود تمَّت في الخفاء وبسرية تامَّة؛ بعيدًا عن معرفة المجتمع اليمني الذي كان فاقدًا لإرادته وحقوقه، ووعيه بمسئوليَّاته الجمعية تجاه القضايا العامَّة، نتيجة خضوعه للاستبداد الكهنوتي والاحتلال البريطاني، في ذلك الوقت. وفي تلك الظُّروف لم تكن تتوفَّر وسائل إعلام متعدِّدة ومستقلَّة، أو هياكل وكيانات مجتمعية سياسية فاعلة ومؤثِّرة؛ وإن وجدت قوى معارضة بدأت تتشكَّل شيئًا فشيئًا في العقدين التَّاليين ضدَّ حكم الإمامة والاحتلال
البريطاني. وبالتَّالي، لم تشهد اليمن أيُّ ردِّ فعل شعبي على احتلال فلسطين وتهجير يهود اليمن إلى هناك.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى