احتجاجات عدن والمكلا.. الدوافع والمآلات
Getting your Trinity Audio player ready... |
في العاشر مِن شهر سبتمبر الجاري، شهدت مدينة عدن، انطلاق الشَّرارة الأولى لحركة احتجاج شبابيَّة، لم تلبث أن تحوَّلت خلال أيام إلى انتفاضة شعبيَّة واسعة، ومظاهرات جابت أحياء وشوارع المدينة، تعبيرا عن حالة الاحتقان والرَّفض لتردِّي الأوضاع الخدميَّة والمستوى المعيشي فيها.
ظلَّت حركة الاحتجاج مستمرَّة لأيام، ورفعت شعارات مطالبة بطرد “المجلس الانتقالي”، وخروجه مِن عدن، وتوقُّف حالة الفلتان، بالرَّغم مِن مواجهة “المجلس الانتقالي” للمتظاهرين والمحتجِّين بالأطقم العسكريَّة، والمطاردات الأمنيَّة، وحملات الاعتقالات، وإطلاق النَّار الحي في الهواء تجاه المتظاهرين، ما تسبَّب في وقوع قتلى وإصابات.
كما شهدت مدينة المكلَّا بممحافظة حضرموت تظاهرات واسعة، احتجاجًا على تدهور العملة والخدمات في المحافظة، وأُغلقت المحلَّات التِّجاريَّة تنديدًا بتردِّي خدمات الكهرباء، وقام المحتجُّون بقطع الشَّوارع الرَّئيسة والفرعيَّة، وردَّدوا شعارات تطالب برحيل محافظ المحافظة، لعجزه عن حلِّ مشكلة الكهرباء الَّتي يعاني مِنها السُّكان منذ سنوات. وقد أفادت مصادر لـ”الجزيرة”، بمقتل شخص وإصابة 4 آخرين بجروح برصاص قوَّات الأمن، بالمكلَّا. كما فرَّقت قوَّات الجيش محتجِّين في مدينة تَريم بالمحافظة، حاولوا إغلاق طريق دولي يربط اليمن بسلطنة عُمان، تنديدًا بتدهور الأوضاع المعيشيَّة. كما خرجت مظاهرات في مدينة الشِّحر في حضرموت.
وقد حمَّل المحتجُّون الأطراف الرَّئيسة الثَّلاثة: “التَّحالف العربي”، و”الحكومة الشَّرعيَّة”، و”المجلس الانتقالي” مسئوليَّة تدهور الأوضاع، غير أنَّ الانتقالي بدا الأكثر حضورًا في عريضة اتَّهام المحتجِّين لكونه المسيطر فعليًّا على مدينة عدن والمناطق المجاورة، وهو وحده المتحكِّم بمواردها الماليَّة، والمتسبِّب في مغادرة الحكومة الشَّرعيَّة.
أسباب الاحتجاجات:
سبق هذه الاحتجاجات عدَّة حوادث شهدتها مدينة عدن؛
ففي 31 يوليو الماضي، جرت حادثة اختطاف الشَّاب، فهد الرِّياشي، مِن قبل مسلَّحين تابعين لقيادي تابع لـ”المجلس الانتقالي”، مِن مطار عدن الدُّولي، أثناء عودته مِن أوربَّا لزيارة أقاربه في اليمن، وإخفائه لشهر كامل دون معرفة محلِّ احتجازه، أو إبلاغ أهله.
وفي 10 سبتمبر، جرى احتجاز أربعة طلَّاب عائدين مِن ماليزيا، إلى أرض الوطن عبر مطار عدن الدُّولي، وإخفاءهم قسريًّا في معسكر بدر بعدن، الخاضع لقوَّات “المجلس الانتقالي”، دون الكشف عن أسباب وملابسات عمليَّة الاحتجاز.
وفي 13 سبتمبر، جرى قتل الشَّاب، عبدالملك السَّنباني، العائد مِن الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، بعد حجزه واختطافه في نقطة أمنيَّة بمحافظة لحج، تتبع اللِّواء التَّاسع صاعقة، أحد ألوية “المجلس الانتقالي”، أثناء مروره بالنُّقطة قادمًا مِن مطار عدن، وهو في طريقه إلى صنعاء. وتحوَّلت الحادثة لقضيَّة رأي عام، بعد ظهور جثَّته في إحدى مستشفيات عدن وعليها آثار التَّعذيب.
جميع هذه الحوادث شكَّلت عقب تفاعلها في منصَّات التَّواصل الاجتماعي، ووسائط التَّواصل الاجتماعي، شرارة انطلاق الاحتجاجات الشَّعبيَّة الَّتي شهدتها مدينة عدن لأيَّام عدَّة. غير أنَّ هناك أسبابًا ودوافع عدَّة أدَّت إلى هذا الزَّخم الشَّعبي المشارك فيها، ومِن ذلك:
– تردِّي البنى التَّحتيَّة في المدينة، وانهيار الخدمات العامَّة: (الكهرباء، المياه، المجاري، النَّظافة، الصِّحَّة،.. الخ).
– تعطُّل أعمال الوزارات والمؤسَّسات الرَّسميَّة المختلفة، ومِن ذلك: القضاء، والمحاكم، والنيابات.
– ارتفاع الأسعار، وغلاء المعيشة، وسقوط سعر العملة المحلِّيَّة أمام العملات الأجنبيَّة، مع انقطاع الرَّواتب لفترة تزيد عن عشرة أشهر، وتوقُّف الاستثمارات والأعمال والمشاريع، نتيجة الحالة الأمنيَّة والفوضى الحاصلة، ما غيَّب فرص العمل والتَّوظيف، وزاد مِن نسب البطالة والفقر.
– حالة الانسداد السِّياسي والتَّوتُّرات المستمرة في المشهد العام، وانتهاكات القوَّات التَّابعة لـ”المجلس الانتقالي” لحقوق المدنيِّين، وأداء المؤسَّسات الحكوميَّة، مع تغييب الحكومة “الشَّرعيَّة” عن الحضور نتيجة تعثُّر تنفيذ “اتِّفاق الرِّياض”، الَّذي تمَّ بين الحكومة “الشَّرعيَّة” و”المجلس الانتقالي”، في 5 نوفمبر 2019م.
– مرور ستِّ سنوات على تحرير مدينة عدن دون تحقيق أيِّ إنجاز يمسُّ حاجات المواطن، وعاش المجتمع خلالها أزمات مختلفة صعَّبت مِن أوضاعه المعيشيَّة، خاصَّة بعد سيطرة “المجلس الانتقالي” على إدارة عدن، رغم كلِّ الوعود الَّتي أطلقها لتحسين أوضاع المدينة ومعالجة أزماتها.
هذه العوامل مجتمعة فاقمت حالة الاحتقان الشَّعبي وأدَّت إلى تنامي السَّخط المجتمعي في مدينة عدن.
وبالمثل شهدت مدينة المكلَّا، ومدن أخرى في محافظة حضرموت، حركة احتجاج مماثلة، مدفوعة بالأسباب ذاتها.
مطالب المحتجِّين:
خرج المحتجُّون في مدينة عدن، مِن كافَّة الفئات العمريَّة والشَّرائح الاجتماعيَّة، وعبَّر المتظاهرون عن عدَّة مطالب، مِنها:
- تحسين البنى التَّحتيَّة، وتوفير الخدمات الأساسيَّة، ووقف تدهور الوضع المعيشي.
- رفضهم غياب مؤسَّسات الدَّولة، رغم ما حمله “اتِّفاق الرِّياض”، مِن تأكيد على عودة الحكومة الشَّرعيَّة إلى مدينة عدن لمزاولة مهامها.
- وقف الممارسات غير القانونيَّة والانتهاكات الَّتي تقوم بها التَّشكيلات المسلَّحة التَّابعة لـ”المجلس الانتقالي” المدعوم إماراتيًّا.
ردود الأفعال:
- الحكومة الشَّرعيَّة:
بعد مضي قرابة أسبوع على الاحتجاجات الَّتي اجتاحت شوارع عدن والمكلَّا، لم يصدر عن الحكومة “الشَّرعيَّة” أيَّ موقف يذكر، باستثناء تغريدات لبعض المحسوبين على الحكومة “الشَّرعيَّة”، طالبت بضرورة العمل على تحسين الأوضاع المعيشيَّة والظُّروف الاقتصاديَّة، وتنفيذ الشِّق الأمني والعسكري مِن “اتِّفاق الرِّياض” لتمكين الحكومة الشَّرعيَّة مِن العودة وممارسة أعمالها ومهامَّها مِن العاصمة المؤقَّتة (عدن) بأمان. إلَّا أنَّها باتت مطالبة وفق بيان “اللَّجنة الرُّباعيَّة” بالعودة إلى عدن، والتَّحرُّك في الملف الاقتصادي. في حين لا تبدو الحكومة راغبة بتكرار تجربة الأشهر الثَّلاثة الأولى مِن العام الجاري، حينما عادت وبدأت العمل مِن عدن، ولكنَّها ظلَّت تحت رحمة قوَّات “المجلس الانتقالي” الَّتي تنفرد بالسَّيطرة على المدينة.
وطالب رئيس الحكومة اليمنيَّة، معين عبدالملك، في 14 سبتمبر الجاري، حكومة الإمارات بدعم استكمال تنفيذ “اتِّفاق الرِّياض”، والمساعدة في وقف تدهور الاقتصاد اليمني، ودعم تمكين الحكومة مِن أداء أعمالها مِن العاصمة المؤقَّتة (عدن).
- المجلس الانتقالي:
استبق “المجلس الانتقالي” الاحتجاجات بإلقاء اللَّائمة على الحكومة كونها -مِن وجهة نظره- ترفض العودة إلى عدن لتقوم بواجباتها وتمارس أعمالها. ومع بدء الاحتجاجات حاول “المجلس الانتقالي”، عبر عدد مِن قياداته، تهدئة الشَّارع واحتواء الغضب المتصاعد، بمقابلة المحتجِّين والحديث معهم، ومطالبتهم بوقف التَّصعيد، لكن ظلَّت الاحتجاجات مستمرَّة ومتصاعدة. ومع عجز الانتقالي عن إيقاف الاحتجاجات سلميًّا، بدأ باستخدام الحلول الأمنيَّة بإنزال القوَّات المسلَّحة لقمع المحتجِّين بالقوَّة، واعتقالهم ومطاردتهم.
بالتَّوازي مع الحلول الأمنيَّة، أطلقت وسائل الإعلام التَّابعة للانتقالي حملة دعائيَّة لتشويه صورة المحتجِّين، والتَّشويش على مطالبهم، ووصفهم بالمـأجورين والمندسِّين وخَدَم قوى وأجندة معادية، ووصفهم بـ”الحوثة المتسلِّلين إلى عدن”!
كما دفع الانتقالي ناشطيه ووسائل الإعلام التَّابعة له للتَّحذير مِن المشاركة في الاحتجاجات، باعتبارها أعمالًا تهدِّد الأمن والاستقرار، وبالتَّرويج لانتصارات أمنيَّة تتضمَّن إلقاء القبض على خلايا تخريبيَّة، والإمساك بمسلِّحين كانوا موجودين بين المتظاهرين، ولتعرُّض جنود الأمن لاعتداءات مِن مندسِّين، مع مزاعم وجود مخربِّين ومعتدين ينتمون للمحافظات الشَّماليَّة وقوى سياسيَّة تعادي الجنوب، وغير ذلك مِن الدِّعايات الَّتي ضجت بها وسائل الإعلام التَّابعة للانتقالي.
في 15 سبتمبر الجاري، أعلن عيدروس الزَّبيدي، رئيس “المجلس الانتقالي”، في كلمة له، عن “إعلان حالة الطَّوارئ” في المحافظات الجنوبيَّة، ودعا قوَّاته إلى “الضَّرب بيد مِن حديد على كلِّ مَن تسوِّل له نفسه زعزعة الأمن والاستقرار في عدن” -حسب تعبيره. كما دعا إلى عدم التَّهاون مع مَن سمَّاها “العناصر المندسَّة” في الاحتجاجات، وحذَّر مِن توجيه الاحتجاجات لأهداف غير وطنيَّة وحسابات سياسيَّة أو افتعال الفوضى والتَّخريب -كما قال.
ظهور الزَّبيدي -أثناء إلقاء كلمته المقتضبة- مرتديًا البزَّة العسكريَّة، فضلًا عن خلوِّ كلمته مِن أيِّ وعد بالتَّحسين أو اجتراح حلول مناسبة للأوضاع، يؤكِّد أنَّ “العنف” هو الحلَّ المطروح لإخماد حركة الاحتجاجات.
- السُّلطة المحليَّة في حضرموت:
في المكلَّا بحضرموت، يمتلك المحافظ، فرج البحسني، قوَّات النُّخبة، ويقود في الوقت نفسه قوَّات المنطقة العسكريَّة الثَّانية، ويحظى بعلاقة متوازنة مع السَّعوديَّة والإمارات، والحكومة الشَّرعيَّة و”المجلس الانتقالي”، ما جعله أكثر اطمئنانًا وأقلَّ حدَّة في مواجهة الحركة الاحتجاجيَّة، حتَّى اللَّحظة. وقد عبَّرت السُّلطات المحليَّة عن تعاطفها مع المحتجِّين، ووقوفها إلى جانبهم في التَّعبير عن المعاناة، والمطالبة بوضع الحلول اللَّازمة.
- التَّحالف العربي:
يبدو في رأي بعض المراقبين أنَّ ما يجري في عدن ليس إلَّا صراعًا خفيًّا بين الرِّياض مِن جهة، وأبو ظبي مِن جهة أخرى، وهذا ما يفسر حديث بعض الإعلاميِّين السُّعوديِّين عن دور “المجلس الانتقالي” السَّلبي وعرقلته تنفيذ “اتِّفاق الرِّياض”، وتحمُّله تبعات الأحداث الجارية في عدن؛ وفي المقابل يحمِّل الإعلام الإماراتي الحكومة الشَّرعيَّة أسباب تردِّي الأوضاع الاقتصاديَّة والظًّروف المعيشيَّة في عدن والمحافظات الجنوبيَّة، وقد أهمل التَّعاطي مع حركة الاحتجاجات الأخيرة أو قلَّل مِن شأنها.
هذا الموقف المتناقض بين طرفي قيادة التَّحالف هو ما دفع “اللَّجنة الرُّباعيَّة” للظُّهور في هذه الأثناء لتكون هي صاحبة الموقف، إذ صدر عن سفراء دول الرُّباعيَّة (السُّعوديَّة، والإمارات، والولايات المتَّحدة، وبريطانيا)، في 16 سبتمبر الجاري، بيان يطالب الحكومة “الشَّرعيَّة” بالعودة إلى عدن، وسرعة اتِّخاذ جميع الخطوات اللَّازمة للبدء بتحقيق الاستقرار الاقتصادي في اليمن، مع تأكيد التزام دول الرُّباعيَّة بتقديم الدَّعم لها. وأكَّد البيان أهميَّة سرعة تنفيذ “اتِّفاق الرِّياض”.
- النَّاشطون:
تابع النَّاشطون اليمنيُّون، مِن أبناء المحافظات الجنوبيَّة، احتجاجات عدن، وقاموا بتغطية أخبارها ونقل أحداثها أوًّلا بأول، عبر منصَّات التَّواصل الاجتماعي، وأطلقوا “هاشتاج” #عدن_تنتفض_ضد_الانتقالي ليضمَّ كلَّ التَّغريدات والتَّعليقات المتعلِّقة بالحدث، ليتصدَّر الهاشتاج صفحات المنصَّات الاجتماعيَّة لليمنيِّين عموما، ويصبح حديث السَّاعة.
محدِّدات التَّرجيح بين السِّيناريوهات:
1- استمرار الاحتجاجات وتوسُّع حضورها وارتفاع وتيرة مطالبها، وقدرتها على مواجهة آلات القمع وأدوات القتل.
2- موقف “المجلس الانتقالي” وبقائه متماسكا وأدائه في مواجهة هذه الاحتجاجات، أو في إفراغ مطالبها، أو في تصحيح مسار أدائه ومعالجة الأوضاع والأزمات القائمة بجديَّة.
3- موقف الحكومة “الشَّرعيَّة” الإيجابي مِن الاحتجاجات، وقدرتها على استثمارها في إلزام “المجلس الانتقالي” بتنفيذ “اتِّفاق الرِّياض” كاملا، بما في ذلك الشَّق الأمني والعسكري، دون تأخير.
4- موقف السُّعوديَّة مِن الحكومة “الشَّرعيَّة”، والاحتجاجات الشَّعبيَّة، وقدرتها على كسب الشَّارع الجنوبي لصالحها بعد أن سيطرت عليه الإمارات.
5- الضُّغوط الدُّوليَّة الَّتي تمارس على الأطراف اليمنيَّة، وبالأخصِّ على الحكومة الشَّرعيَّة، وآخرها المطالبة بعودتها إلى عدن لمواجهة الأوضاع الاقتصاديَّة، بصرف النَّظر عن تطبيق الشِّق الأمني والعسكري مِن “اتِّفاق الرِّياض”.
المآلات المتوقَّعة:
في ظلِّ ما تعيشه المحافظات الجنوبيَّة، خاصَّة عدن وحضرموت، مِن احتجاجات مستمرَّة، وما بدا مِن ردود فعل متفاوتة للسُّلطات المحليَّة والأجهزة الأمنيَّة، فإنَّ المتوقع أن تفضي الأمور إلى أحد المآلات التَّالية:
أوَّلًا: قمع الاحتجاجات: باستخدام القوَّة لتفريق المتظاهرين، ومطاردة المحتجِّين، وإرهابهم مِن خلال إطلاق النَّار، والاعتقالات، والاقتحامات، والتَّهديد، وتلفيق الاتِّهامات. وهذا ما ظهر مِن خلال استنفار “المجلس الانتقالي” كافَّة وحداته العسكريَّة والأمنيَّة، والانتشار في الشَّوارع والأحياء، والتَّصدِّي بكلِّ عنف لأيِّ مظهر مِن مظاهر الاحتجاج. فالانتقالي ينظر إلى الاحتجاجات باعتبارها مسألة وجود أو عدم بالنَّسبة له؛ وإذا ما توسَّعت وزاد لهيبها فإنَّه سيكون أوَّل المحترقين بنيرانها.
وفي حال نجحت القوَّة في قمع حركة الاحتجاجات، وهو المآل الَّذي ترجِّحه الورقة، فإنَّ الانتقالي سيكون قد حقَّق -على المدى القريب- ما يعتبره انتصارًا حاسمًا في معركة مصيريَّة، وسوف يعزِّز مِن سيطرته على الأرض، ويعمل على ملاحقة الأصوات المعارضة والآراء المخالفة. غير أنَّه سيكون قد انكشف أمام الشَّارع العدني بعدما وجَّه سلاحه إلى صدور المحتجِّين العزَّل، وأراق دماءهم، وأسقط القتلى والجرحى في مختلف مناطق عدن، وهو الذي كان يزعم أنَّ سلاحه لا يستخدم إلَّا في الدِّفاع عن عدن والمحافظات الجنوبيَّة تجاه أيِّ عدوٍّ خارجي.
ثانيَا: توسُّع رقعة الاحتجاجات: وخروج الوضع عن السَّيطرة، ونشوب حالة مِن الفوضى، وحدوث تراجع لقوَّات “المجلس الانتقالي” ومكوِّناته، ما قد يفرض مواجهة مفتوحة. وهذا مرهون باستمرار حركة الاحتجاجات، وتصاعد وتيرتها، وقدرتها على المواجهة، وتحمُّل وسائل القمع، وأدوات القتل والاعتقال، والملاحقات الأمنيَّة. وفي هذه الحالة سوف يسعى “المجلس الانتقالي” لكسب دعم خارجي، مع إحكام السَّيطرة على بعض المناطق بيده، والدُّخول في مواجهات مسلَّحة ضدَّ جماعات ووحدات قد تتخلَّق لاحقًا مِن داخل حالة الفوضى والانفلات الأمني. ويبدو أنَّ هذا المآل مستبعد في الوقت الرَّاهن لأسباب موضوعيَّة وظرفيَّة عدَّة.
ثالثًا: تشكُّل ضغط شعبي وحكومي: -بسبب الاحتجاجات- على “التَّحالف العربي”، بقيادة المملكة العربيَّة السُّعوديَّة، لتعمل بجديَّة وحزم لتنفيذ “اتِّفاق الرِّياض”، وما يتضمنَّه مِن معالجات وترتيبات، أهمُّها: عودة الحكومة، وإخراج المعسكرات مِن عدن، وتسليم الأسلحة المتوسِّطة والثَّقيلة الواقعة في يد المليشيَّات غير القانونيَّة، وضمُّ كلِّ الوحدات والتَّشكيلات المسلَّحة تحت إشراف وزارتي الدِّفاع والدَّاخليَّة، والبدء بالتَّرتيبات الاقتصاديَّة الَّتي مِن شأنها وضع حلول ومعالجات للوضع المعيشي.
أما في محافظة حضرموت فيبدو القمع مستبعداً، على الأقل بذات المستوى الذي تتعرض له احتجاجات عدن، ما يرجح أن تؤول الأوضاع هناك إلى احتواء الحركة الاحتجاجية مع تلبية الحد الممكن من مطالبها، أو التوافق مع السلطات المحلية على تشكيل آلية ضغط مشتركة على الحكومة والتحالف العربي لدعم السلطة المحلية والمؤسسات الخدمية المعنية في العمل على تخفيف المعاناة وتحسين وضع الخدمات.
التَّوصيات:
بقراءة التَّأثير المحتمل للمحدِّدات السَّابقة على الاحتجاجات الشَّعبيَّة في عدن والمكلَّا، والنَّظر للمآلات المتوقَّعة، يمكن وضع التَّوصيات التَّالية:
1- استمرار الاحتجاجات الشَّعبيَّة على الميدان، والزَّخم الإعلامي، ورقابة المنظَّمات الحقوقيَّة للتَّداعيات، للضَّغط سياسيًّا على جميع الأطراف لإخراج الجنوب مِن حالة اللَّا دولة واللَّا انفصال، وعودة الحكومة الشَّرعيَّة لتمارس واجباتها وتتحمَّل مسئوليَّاتها مِن وجودها في الميدان، وتنفيذ “اتِّفاق الرِّياض” كاملًا لقطع أعذار الحكومة في تغيُّبها.
2- ضرورة مطالبة الحكومة اليمنيَّة للتَّحالف العربي بإلزام “المجلس الانتقالي” بتنفيذ الجوانب العسكريَّة والأمنيَّة مِن “اتِّفاق الرِّياض”، قبل العودة إلى عدن، لأنَّ هذا يعني بالضَّرورة وقوعها -في ظلِّ ضعفها واستقواء “المجلس الانتقالي”- تحت مقصلة التَّهديدات والضُّغوطات.
3- على القوى السِّياسيَّة الوطنيَّة اليمنيَّة التَّحرُّك بموازاة الشَّارع الجنوبي لإضفاء زخم أكبر على هذه الاحتجاجات والإفادة مِنها لانتشال الواقع اليمني مِن هيمنة المليشيا المسلَّحة والقوَّات المتمرِّدة على السُّلطة والمشاريع الوظيفيَّة التَّابعة للأجندات الخارجيَّة.
ختاما:
قد تشكِّل الاحتجاجات فرصة ثمينة للأطراف المعنية –”التَّحالف العربي” و”الحكومة الشَّرعيَّة” و”المجلس الانتقالي”- إذا أعادت النَّظر في أدائها وإدارة العاصمة المؤقَّتة (عدن) وبقيَّة المناطق المحرَّرة؛ خاصَّة فيما يتعلَّق بأوضاع الخدمات الأساسيَّة وأحوال المعيشة. إذ يبدو الوضع الاقتصادي في أسوأ حالاته ما يفرض على جميع الأطراف إعطاءه الأولويَّة القصوى لوضع حدٍّ للمعاناة الَّتي تزداد سوءًا، فلم يعد بمقدور المجتمع تحمُّل المزيد مِنها.
أمَّا إذا أغفلت تلك الأطراف هذه الاحتجاجات فإنَّها ستكون قد أهدرت الفرصة، وسيتعيَّن عليها تحمُّل تبعات التَّدهور المستمر والانهيار المتواصل والاحتجاجات الَّتي قد تتَّخذ أشكالًا أخرى، وستبدو أقرب للتَّمرُّد مِنها إلى استجداء الحلول والمعالجات لاختلالاتٍ مِن صنع الأطراف الثَّلاثة ونتيجة صراعها وحساباتها الضَّيِّقة.