اتجاهات موقف تركيا نحو الحرب في اليمن في ظل تقاربها مع السعودية

Getting your Trinity Audio player ready...

تمهيد:

أيَّدت تركيا العمليَّات العسكرية لـ”التَّحالف العربي” في اليمن، بهدف استعادة “الشَّرعية”، والتي انطلقت في 26 مارس 2015م؛ وقد أعلن الرَّئيس التُّركي، رجب طيِّب أردوغان، في حينها، أنَّ التَّدخُّل جاء نتيجة انتهاك جماعة الحوثي للاتِّفاقيَّات والقرارات الدُّوليَّة، ومخالفتهم الصَّريحة لقرارات مجلس الأمن الدُّولي، ورفضهم المتكرِّر لعمليَّة الحوار السِّياسي. وبعد مُضي وقت مِن التَّدخُّل العسكري، ونتيجة لجملة مِن المتغيِّرات، تحوَّل موقف تركيا مِن الدَّعم والإسناد للعملية العسكرية إلى الاهتمام فقط بالشَّأن الإنساني، والتدرّج في الانتقاد لأخطاء العمليَّات العسكرية التي تقوم بها قوَّات “التَّحالف”.

وبخلاف سنوات مِن توتُّر العلاقة التُّركية السُّعودية، شهدت الشُّهور القليلة الأخيرة تطوُّر إيجابيًّا في علاقة البلدين، على إثر الزِّيارة التي قام بها الرَّئيس التُّركي، رجب طيِّب أردوغان، للمملكة العربية السُّعودية؛ والزِّيارة المرتقبة لولي العهد السُّعودي، الأمير محمَّد بن سلمان، يوم الأربعاء، الموافق 22 يونيو مِن الشَّهر الجاري. وفي ذات الاتِّجاه، شهد الملفُّ اليمني تطوُّرًا جوهريًّا مِن خلال تشكيل “مجلس القيادة الرِّئاسي”، ونقل صلاحيات الرَّئيس، عبدربِّه منصور هادي، إليه، وهو ما يتطلَّب دراسة تأثير هذين المتغيِّرين على موقف تركيا مِن الصِّراع في اليمن.

تأييد تركي لـ”العاصفة” و”التَّحالف”:

بنت أنقرة موقفها تجاه “عاصفة الحزم” مِن رؤيتها للتَّمدُّد الإيراني، وسعي طهران لفرض الهيمنة والنُّفوذ على عدد مِن عواصم الدُّول العربية، كدمشق وبغداد وصنعاء؛ حيث ترى أنقره أنَّ ذلك التَّمدُّد يشكِّل خطرًا على الأمن الإقليمي؛ في الوقت الَّذي تريد أنقرة أن يكون لها دور كبير في التَّوازنات الإقليميَّة في المنطقة، باعتبارها معنيَّة بالسِّياسات الدُّوليَّة في جوارها الإقليمي، بحكم أنَّها ستكون مستفيدة أو متضرِّرة مِنها.

ونظرًا لرغبة تركيا في التَّقارب مع السُّعوديَّة ودعم مواقفها في المنطقة، سارعت أنقرة إلى الدَّعم الصَّريح والواضح لعمليَّة “عاصفة الحزم”، بقيادة السُّعوديَّة في اليمن، كما دعمت الخطوات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والإنسانيَّة الَّتي تبنَّتها السُّعوديَّة في العام الأوَّل مِن الحرب.

وكان الموقف التُّركي المساند لـ”الشَّرعيَّة” مبنيًّا على رغبة أنقرة في منع تفكُّك اليمن، وتجزئته، وتشرذمه، أو ارتهانه لقوى خارجيَّة تهدِّد سيادته واستقلاله، وهو موقف يتَّسق مع سياسة تركيا في دعم وحدة أراضي الدُّول التي شهدت حراكًا ثوريًّا، في إطار ما يُعرف بالرَّبيع العربي. وفي الحالة اليمنيَّة كان الخيار الأكثر مشروعية هو التَّدخُّل السُّعودي، لذلك وقفت تركيا ضدَّ التَّدخُّل الإيراني، ودعمت التَّدخُّل العسكري لدول “التَّحالف العربي”، بقيادة السُّعودية.

دور تركي مستقل في اليمن:

استمرَّ الموقف التُّركي مساندًا للسُّعودية و”التَّحالف العربي”، غير أنَّ متغيِّرات عدَّة فرضت على أنقرة مراجعة سياساتها، فقد انحازت “الرِّياض” لسياسات الإمارات العربية المتَّحدة في الشَّأن اليمني، ورفض الطَّرفان أيَّ حضور لطرف آخر، سواء مِن داخل “التَّحالف” أو مِن خارجه، في الملفِّ اليمني؛ بما في ذلك أي جهود إنسانيَّة تقوم بها أنقرة ميدانيًّا؛ وأعاقت قوَّات أمنيَّة وعسكريَّة، مدعومة إماراتيًّا، الأعمال الإغاثية والإنسانية التُّركية داخل اليمن، وقامت باحتجاز أفرادها لعدَّة أيَّام.

وفي ظلِّ أجواء الفوضى الأمنيَّة الَّتي تشهدها البلاد، جرت محاولة لاغتيال المسئول المالي في الهلال الأحمر التُّركي، بمدينة عدن، ووُجِّهت الاتِّهامات في حينه إلى أطراف يمنيَّة، مدعومة إماراتيًّا، كما تزايدت التَّقارير المختلفة التي تتحدَّث عن انتهاك حقوق الإنسان مِن قبل “التَّحالف” في الملفِّ اليمني.

التَّغيير الأكبر في الموقف التُّركي حدث بفعل الأزمة الخليجية- الخليجية، وانحياز تركيا إلى جانب قطر، ودعمها لها في مواجهة الحصار الذي فُرض عليها؛ وبشكل أكبر بفعل التَّوتُّر الشَّديد في العلاقة التُّركيَّة- السُّعوديَّة على خلفيَّة مقتل الصَّحفي السُّعودي، جمال خاشقجي، داخل القنصليَّة السُّعوديَّة، في مدينة إسطنبول، مطلع شهر أكتوبر عام 2018م، ما تسبَّب في انقطاع العلاقة بين الطَّرفين، وغياب التَّنسيق بينهما في الشَّأن اليمني.

وجاء هذا التَّغيُّر بالتَّزامن مع انسحاب عددٍ مِن الدُّول مِن “التَّحالف العربي”، أو تجميد عضويَّتها فيه، وارتفاع الأصوات الدُّوليَّة المنادية بوقف العمليَّات العسكريَّة. وفي هذا السِّياق تغيَّر موقف تركيا، فقد سحبت دعمها لـ”التَّحالف” بقيادة السُّعودية، وركَّزت على دعم جهود الوساطة التي تقودها الأمم المتَّحدة.

مع ضرورة الإشارة إلى أنَّ انتهاج أنقرة لخطٍّ مستقلٍّ بشأن الملفِّ اليمني، مغاير لسياسة “التَّحالف”، لم يدفعها بالضَّرورة للتَّصادم مع السِّياسات السُّعودية، إذ ظلَّت أنقرة داعمة لـ”الشَّرعيَّة” اليمنيَّة، المدعومة مِن قبل “التَّحالف”، ورافضة لأيِّ تدخُّل لها في الملفِّ اليمني خارج موافقة “الشَّرعيَّة”، والتَّنسيق مع “التَّحالف”، رغم استحثاث شخصيَّات يمنيَّة لإشراك تركيا ودخولها على خطِّ الحلول للأزمة في اليمن.

في المقابل، كانت تركيا وجهة للشَّخصيَّات والقيادات اليمنيَّة المناوئة للسِّياسات الإيرانيَّة، والمتضرِّرة كذلك مِن بعض السِّياسات والسُّلوكيَّات الخاطئة لأطراف في “التَّحالف العربي”، فقد بات الكثير مِنها عرَّضة للخطر، نتيجة أعمال الاعتقال والاختطاف، والإخفاء القسري، والتَّعذيب، أو الاغتيال. 

وفيما عدى ذلك، اكتفت أنقرة بمتابعة المشهد، ورصد الواقع، في انتظار دور مستقبلي هناك، رغبة مِنها في الحفاظ على مصالحها الجيو-إستراتيجية في البحر الأحمر، وخليج عدن، وبحر العرب، وحماية قواعدها العسكريَّة في القرن الأفريقي.

وفي هذه المرحلة أيضًا، أعطت أنقرة الأولويَّة لدعم عمليَّة السَّلام؛ فقد صرَّح وزير الخارجيَّة التُّركي، مولود تشاوش أوغلو، في يناير 2019م، عن إعطاء الأولويَّة للجهود الرَّامية إلى إحلال السَّلام في اليمن، مشدِّدًا على أنَّ تركيا “ستساهم في إنهاء الحرب في اليمن”. وفي السِّياق ذاته، أشادت تركيا بجميع الجهود الرَّامية لإحلال السَّلام في اليمن، بما في ذلك “اتِّفاق استكهولم”، الذي تمَّ في 13 ديسمبر2018م، وكذلك “اتِّفاق الرِّياض”، في 5 نوفمبر 2019م. وهو توجُّه يتسِّق مع دعوة “التَّحالف العربي” مؤخَّرًا للأطراف اليمنيَّة، عقب تشكيل “مجلس القيادة الرِّئاسي”، للدُّخول في عمليَّة سلام تجنِّب اليمن ويلات الحرب، وإعلانه عن هدنة مِن طرف واحد لمنح المبعوث الأممي الخاصِّ باليمن فرصة لدعم عمليَّة السَّلام، وإقناع الأطراف المختلفة للانخراط فيها.

وفيما عدا ذلك، اتَّجهت اهتمامات الحكومة التُّركيَّة للتَّعامل مع قضايا أخرى تمسُّ مصالحها، ووجدت فيها متاحًا للتَّدخُّل، مثل ليبيا وأذربيجان وسوريا. وأظهرت قدرة على حسم بعض هذه الملفَّات، مِن خلال أدائها السِّياسي والعسكري والأمني، ما جعل الأنظار تلتفت للنَّجاحات الَّتي حقَّقتها في هذه الملفات، وبسرعة فائقة لصالح حلفائها، وأكسبها مصداقيَّة لسياستها وقدراتها العسكريَّة والأمنيَّة.

عودة التَّقارب التُّركي- السُّعودي:

يمكن الجزم بصُّعوبة أن يكون لأنقرة دور أكبر في الملفِّ اليمني، ما لم يكن هناك تقاربٌ حقيقيٌّ بين تركيا والسُّعوديَّة، وذلك لأنَّ المشهد السِّياسي في اليمن مرتبط بشكل مباشر بالسِّياسة السُّعوديَّة، ومؤخَّرًا بالسِّياسة الإماراتيَّة، وفي ظلِّ توتُّر العلاقة بين تركيا وكلٍّ مِن السُّعوديَّة والإمارات، ومرورها بحالة مِن التَّوتُّر والقطيعة، ومع وقوع الحكومة “الشَّرعيَّة” اليمنية تحت ضغوطات “التَّحالف”، ووجودها على الأراضي السُّعوديَّة، كان التَّدخُّل التُّركي في اليمن سيعني بالضَّرورة اصطدامًا مع هذه الأطراف.

وبالرَّغم ممَّا سبق، ظلَّت حكومة تركيا تدين وبشكل مستمرٍّ الهجمات الَّتي تقوم بها جماعة الحوثي على المنشآت النَّفطية والمصالح الحيوية السُّعودية، باعتبارها أعمال خارجة على القانون الدُّولي. وقد عبَّرت وزارة الخارجية التُّركية، في هذا الصَّدد، عن إدانتها الشَّديدة للهجمات الَّتي شنَّها الحوثيُّون على المصالح السُّعودية، بالقرب مِن مدينة الدَّمام، في مارس 2021م، وعبَّرت عن “قلق بالغ” إزاء تلك الهجمات التي استهدفت الأراضي السُّعودية، متمنيَّة “السَّلامة للمملكة العربيَّة السُّعوديَّة الشَّقيقة، حكومة وشعبًا”.

استمرَّت جهود الحكومة التَّركيَّة لحلحلة الانسداد الكامن في العلاقة بينها وبين طرفي “التَّحالف العربي”، عبر فتح قنوات دبلوماسيَّة متعدِّدة، وتجاوز ملفَّات عدَّة تقف عائقًا أمام استئناف العلاقات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة (والَّتي تأثَّرت سلبًا نتيجة القطيعة السِّياسية). وامتدَّ نهج التَّقارب لشهور عدَّة، وعبر لقاءات معلنة وغير معلنة، بين مسئولي هذه البلدان؛ وعبر تبادل الرَّسائل الإيجابيَّة مِن أجل إصلاح ما فسد مِن العلاقات.

لقد طرأ تحسن في العلاقات الثُّنائيَّة نهاية عام 2020م، خصوصًا بعد توقيع السُّعوديَّة عقدًا مع شركة “فيستل” التُّركية للصِّناعات الدِّفاعية، بقيمة (200) مليون دولار، في إطار التَّصنيع المشترك لطائرات مسيَّرة مِن طراز “كاريال”، بحسب ما كشفت عنه مصادر إعلاميَّة تركيَّة.

وجاءت زيارة الرَّئيس التُّركي إلى السُّعودية، في 28 أبريل الماضي (2022م)، والتي تعتبر الأولى إلى السُّعوديَّة منذ نحو خمس سنوات، تعبيرًا عن رغبة البلدين بطي صفحة الماضي، وضمن جهود إقليميَّة كبيرة دشَّنتها أنقرة لتحسين علاقاتها مع دول المنطقة، بما في ذلك جمهورية مصر العربيَّة ودولة إسرائيل.

لا شكَّ أنَّ ما بعد زيارة الرَّئيس التُّركي للسُّعوديَّة لن يكون كما قبلها، بل هي تفتتح عهدًا جديدًا مِن العلاقات بين أنقرة والرِّياض، يتشكَّل مع حاجة كلٍّ مِن البلدين للآخر، وتطلُّع الجانبين للاستفادة القصوى مِن التَّعاون الاقتصادي والسِّياسي والعسكري بينهما، لإعادة تشكيل الجغرافيا السِّياسية للمنطقة في ظلِّ المخاطر والتَّهديدات المشتركة.

وبالرغم من وجود رواسب كثيرة متعلِّقة بعدد مِن القضايا التي سبَّبت التَّوتُّرات في العلاقات بين الجانبين، إلَّا أنَّ إرادة الأطراف السِّياسية قادرة على إزالة تلك الرَّواسب وبدء حقبة جديدة مِن العلاقات. وقد أشار الرَّئيس التُّركي، في تغريدة له على حسابه في تويتر، إلى أنَّ زيارته إلى السُّعوديَّة “تفتح الأبواب أمام عهد جديد مع المملكة الصَّديقة والشَّقيقة”. وقال: “نحن كدولتين شقيقتين تربطهما علاقات تاريخيَّة وثقافيَّة وإنسانيَّة، نبذل جهودًا حثيثة مِن أجل تعزيز جميع أنواع العلاقات السِّياسيَّة والعسكريَّة والاقتصاديَّة، وبدء حقبة جديدة بيننا”، مؤكِّدًا أنَّه على ثقة برفع العلاقات بين البلدين إلى “مستوى أفضل ممَّا كانت عليه في الماضي”.

ومِن المتوقَّع أن توفِّر زيارة ولي العهد السعودي، الأمير محمَّد بن سلمان، المقرَّر حدوثها الأربعاء، الموافق 22 يونيو الجاري، دفعة قوية للعلاقات السُّعودية- التُّركية، في ظلِّ الحاجة المتبادلة لمردوداتها؛ فولي العهد السُّعودي يريد أن يتجاوز بشكل كبير تداعيات ملف “خاشقجي”، والرَّئيس التُّركي “أردوغان” في حاجَّة ماسَّة للدَّعم الاقتصادي في ظلِّ الظُّروف التي تمرُّ بها تركيا، والاستحقاقات التي تنتظرها.

وعلى الأرجح أن التَّوجُّه السِّياسي لأنقرة للتَّقارب مع السُّعودية، يأتي نتيجة استحقاقات الانتخابات الدِّيمقراطيَّة المزمع جريانها عام2023م، وهو ما يتطلَّب قدر الإمكان تصفير المشاكل على المستوى المحلِّي والإقليمي والدُّولي. ويدفعها في المقابل لتقديم تنازلات مختلفة لتطمين دول “التَّحالف”، بما في ذلك تعليق أو تحجيم أو تجميد أنشطة المعارضين للنِّظام في كلٍّ مِن السُّعوديَّة والإمارات، والمقيمين على الأراضي التُّركية.

كما أنَّ صعود الحزب الدِّيمقراطي في الانتخابات الأمريكيَّة، ووصول “جو بايدن” إلى سدَّة الحكم في البيت الأبيض، وتوجُّهه لاستئناف المفاوضات النَّووية الإيرانية، التي تثير قلق القوى الإقليمية، وفي مقدِّمتها تركيا والسُّعودية، دفع بكلٍّ مِن الرِّياض وأنقرة إلى تجاوز الخلافات والتَّقارب أكثر، استشعارًا مِنهما لأهميَّة التَّنسيق بينهما فيما يتصِّل بالملفَّات المشتركة أكثر مِن أيِّ وقت مضى، خاصة مع شعورهما بأنَّه “لا يمكن الاعتماد عليها [الولايات المتَّحدة] في موضوع الأمن والسَّلام، أو حماية المنطقة تجاه التَّدخُّلات والأطماع الإيرانيَّة مستقبلًا”.

مع الحاجة إلى الإشارة بأنَّ التَّقارب التُّركي لم يقتصر على السُّعوديَّة فقط، حيث سبقه تقارب مع الإمارات، بل سبقه أيضًا حراك دبلوماسيٌّ خليجي مع دولة قطر، إنهاءً للقطيعة بينها وبين كلٍّ مِن السُّعوديَّة والإمارات، وبدرجة أقل مصر، ما يؤكِّد بأن َّهناك دوافع مشتركة حاضرة لدى كلِّ الأطراف، وبما يخدم مصالح الجميع.

أثر التَّقارب التُّركي السُّعودي على الملفِّ اليمني:

تأتي أهميَّة التَّقارب التُّركي السُّعودي بالنِّسبة للقضيَّة اليمنيَّة مِن قدرة كلٍّ مِن البلدين في التَّأثير على المشهد العام في المنطقة، مِن خلال نفوذه السِّياسي والاقتصادي والعسكري. كما يمكن لهذا التَّقارب أن يمنح السُّعوديَّة الاستفادة مِن الصِّناعات الدِّفاعيَّة التُّركيَّة لإحراز نصر لها، ضدَّ جماعة الحوثي، وتغيير المعادلة العسكرية لصالح الرِّياض، خصوصًا وأنَّ الصِّناعات الدِّفاعيَّة التُّركيَّة حقَّقت نجاحًا كبيرًا، وكفاءة عالية في كلٍّ مِن سوريا وليبيا وأذربيجان. وهذا بدوره سيعزِّز استقرار اليمن، ومِن ثمَّ منطقة الخليج، وسينعكس إيجابيًّا على الدُّول الأطراف.

وقد مثَّل تعيين سفير جديدٍ للجمهوريَّة اليمنيَّة لدى أنقرة، برضًا سعودي، بعد أن كانت الرِّياض تمارس ضغوطًا على الرَّئيس “هادي” بعدم تعيين سفير لليمن لدى تركيا، حتَّى ظلَّ المنصب شاغرًا، منذ عام 2018م، مؤشِّرًا على قبول الرِّياض باستعادة تركيا علاقتها الطَّبيعيَّة بالحكومة اليمنيَّة، 

ومِن المتوقَّع أن يسهم هذا التَّعيين في تعزيز الحضور والدَّور التُّركي في اليمن سياسيًّا ودبلوماسيًّا، والعمل وفق تنسيق مشترك في المحافل الدُّوليَّة، وبما يخدم القضيَّة اليمنيَّة، ويدفع بعمليَّة السَّلام إلى الأمام.

تشكيل مجلس القيادة الرِّئاسي في اليمن:

أصدر الرَّئيس اليمني، عبدربِّه منصور هادي، في 7 أبريل 2022م، قرارًا بإعفاء نائبه الفريق الرُّكن، علي محسن صالح الأحمر، مِن منصبه، وتشكيل “مجلس القيادة الرِّئاسي”، برئاسة الدُّكتور رشاد العليمي، وعضويَّة سبعة آخرين، كلُّ واحد مِنهم بوصفه نائبًا لرئيس المجلس، وتفويض كافَّة صلاحياته وصلاحيَّات نائبه الدُّستورية إلى المجلس.

وقد لاقى القرار ترحيبًا إقليميًّا ودوليًّا، ما بعث الأمل لدى الشَّعب اليمني بحصول انفراجة قريبة في الوضع اليمني، والذي يعاني وضعًا صعبًا في كافَّة المجالات، خصوصًا وأنَّ المجلس جمع بين مكوِّنات سياسية كانت تعيش حالة مِن القطيعة والصِّراع السِّياسي والمواجهات العسكرية أحيانًا.

وقد رحَّبت وزارة الخارجية التُّركية، في بيان لها، في 8 أبريل، بتشكيل المجلس، معربة عن ” أملها أن يمهِّد ذلك إلى حلٍّ سياسي للبلاد”، كما أكَّدت “أنَّ تركيا ستفعل كلَّ ما بوسعها للوصول إلى حلٍّ يحافظ على وحدة أراضي اليمن، وشرعيَّته الدُّستورية”. وأضاف البيان “أنَّ تركيا ستواصل جهودها مِن أجل سلامة الشَّعب اليمني، كما كانت تفعل في السَّابق، وأنَّها ستواصل دعم الجهود لحلِّ النِّزاع في البلاد مِن خلال الحوار”.

محدِّدات حاكمة لمستقبل الموقف التركي تجاه الصِّراع في اليمن:

يتحكَّم في الموقف التُّركي مِن الملفِّ اليمني في الفترة الحالية عدد مِن المحدِّدات الخاصَّة بتركيا، وتلك ذات البعد الإقليمي، أو المتَّصلة باليمن تحديدًا. ومِن أبرز هذه المحدِّدات:

1- الانتخابات التُّركية القادمة ونتائجها:

فحكومة الرَّئيس، رجب طيِّب أردوغان، واقعة تحت ضغط الانتخابات الرِّئاسية القادمة، والمزمع إقامتها خلال العام 2023م، وهي تُمثل تحدِّيًّا كبيرا لـ”حزب العدالة والتَّنمية” الحاكم، في ظلِّ ملفَّات ارتفاع معدَّلات التَّضخُّم والبطالة، وغضب قطاعات واسعة مِن الشَّعب التُّركي مِن اللَّاجئين السُّوريِّين في تركيا، والذي يصل تعدادهم إلى ما يقرب مِن مليون وسبعمائة ألف نسمة، إضافة إلى اللَّاجئين الأفغان، ولاجئين مِن دول عربية أخرى. هذا الضَّغط يضع النِّظام التُّركي تحت الحاجة للدُّول الخليجية، إمَّا طمعًا في استثمارات وإسناد مالي يساهم في تعافي الاقتصاد التُّركي والتَّخفيف مِن التَّحدِّيات التي تواجهه، أو لتحييد أيِّ تأثيرات سلبية أمنية أو سياسية يمكن أن تأتي مِن هذه الدُّول.

2-الحاجات المتبادلة لتسوية الملفَّات الإقليمية:

يتحدَّد دور تركيا في اليمن أيضًا في ضوء احتياج كلٍّ مِن الرِّياض وأبو ظبي لأنقرة في التَّعاطي مع القضايا الإقليمية الملتهبة، والتَّعاون لمواجهة المخاطر المشتركة؛ ونفس الأمر بالنِّسبة لتركيا. وهو ما سينعكس سلبًا أو إيجابًا على تعزيز التَّقارب بين أنقرة والرِّياض وأبو ظبي.

3- مسارات مجلس القيادة الرِّئاسي:

مِن المتوقَّع أن يسهم مجلس القيادة الرِّئاسي، المشكَّل مؤخَّرًا، في قيادة دفَّة الأمور في المحافظات الواقعة تحت سيطرته لصالح تعزيز فرص الحسم العسكري، أو إجراء مباحثات سياسيَّة كجزء مِن عمليَّة سلام شاملة ومستدامة؛ ومِن المتوقَّع أيضاً أن يفتح نجاح المجلس آفاقًا أوسع للتَّعاون التُّركي السُّعودي، سواء في المجالات السِّياسية والاقتصادية، أو حتَّى العسكرية. والعكس صحيح، فإنَّ فشل المجلس أو تعثُّر مساره سيجعل الأوضاع تراوح مكانها، أو تمضي في مسار تعقيد المشهد أكثر.

ولكلِّ محدِّد مِن هذه المحدِّدات -دون شكٍّ- أبعاده وسياقاته المختلفة والمتباينة، والتي تؤثِّر في مجموعها في تشكيل الموقف التُّركي تجاه اليمن.

السيناريوهات:

في ضوء تلك المحدِّدات فإنَّ أبرز السِّيناريوهات المحتملة للموقف التُّركي تتمثَّل في:

الدَّعم العسكري:

هذا السِّيناريو سيكون حاضرًا في حال انتقال العلاقات بين تركيا والسُّعودية إلى مستويات أعلى مِن التَّعاون والتَّنسيق، واتِّجاه الرِّياض ومجلس القيادة الرِّئاسي إلى التَّعاطي مع جماعة الحوثي مِن خلال العمل العسكري؛ ففي مثل هذه الظُّروف سيكون هناك مساحة كبيرة لمشاركة أنقرة في العمليَّات العسكرية، وإن بشكل غير مباشر، مِن خلال تزويد الجيش اليمني والسُّعودي بسلاح نوعي، مثل الطَّيران المسيَّر وغيره، وبالرَّغم مِن احتمالية تحقُّق هذا السِّيناريو غير أنَّ فرصه لا تزال ضعيفة ما لم يحصل متغيِّر وازن.

دعم عمليَّة مصالحة شاملة:

ويكون هذا السِّيناريو واردًا في حال قرَّرت الرِّياض إيقاف العمليَّات العسكرية، وكان دافعها مِن تشكيل مجلس القيادة الرِّئاسي هو الدُّخول في مفاوضات لإنهاء الحرب مع الحوثيِّين. وهنا مِن المتوقَّع أن تقوم تركيا بجهود دبلوماسيَّة على مستوى الدَّاخل اليمني والمستوى الإقليمي.

وهو سيناريو يتوقَّف على مدى رغبة “التَّحالف العربي” في الخروج مِن اليمن بأقلِّ الخسائر الممكنة، وإغلاق ملفِّ الحرب بشكل نهائي.

التَّركيز على العمل الإنساني والإغاثي:

وذلك مِن خلال الاهتمام التُّركي بالمجال الاقتصادي في المساحات الممكنة، مع تعزيز التَّقارب مع دول “التَّحالف العربي” لدفع أيِّ مواجهات على مستوى العمل الميداني؛ دون أي جهد خارج هذا الإطار. وهو ما دفعت له كلُّ معطيات المرحلة الماضية، ولا تزال تركيا تسير فيه بهدوء وتوازن. وهذا السِّيناريو سيكون في ظلِّ استمرار الاتِّجاهات الحالية، أو حدوث تحسُّن نسبي فيها.

مراقبة المشهد اليمني عن بُعد:

مِن المتوقَّع أن يحدث هذا السِّيناريو في حال انتكاسة التَّحسُّن النِّسبي في العلاقات التُّركية السُّعودية. وفي هذا الإطار مِن المتوقَّع أن تهتمَّ أنقرة بالقضايا الإقليميَّة الأخرى الأكثر إلحاحًا لها، والمرتبطة بالشَّأن التُّركي بدرجة أساسيَّة، والاكتفاء بالرَّصد والمراقبة عن بعد، إلى حين حدوث تحوُّلات تمنح تركيا القدرة على الحضور والتَّأثير بشكل أكبر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى